شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
سناء جميل… عاشت لحظات سعيدة معدودة وواجهت القسوة بروح الصبّار

سناء جميل… عاشت لحظات سعيدة معدودة وواجهت القسوة بروح الصبّار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 27 أبريل 202001:42 م

ساءلتُ نفسي كثيراً: من أين أدخل إلى قلب ثريا يوسف عطا الله، أو سناء جميل؟ حبّة الجوز القوية، صارمة الملامح التي نازلتْها الأيام فأحسنت هي مقاومتها وصرْعها. كان عمرها حلبة صراع بين فتات الإمكانيات وماكينة زمن تطحن العظام. لم أجد في مضمون مشوارها أو شكلها شيئاً يساوي القسوة كمدخل يفك طلاسم تركيبة واحدة من أهم ممثلات مصر، والتي توارت عنها نجومية الشباك، لكنها بقيت نجمة عزيزة مترفّعة عن الظهور، فعلا قدرُها أكثر بين حشود من يلمعون وهم ليسوا ذهباً.

مارست ظروف الحياة فن القسوة المثالية على سناء، لم تترك غلظة ولا شدة إلا أغرقتها فيها حتى أنفها. كان لها أهل تبرَّأوا منها لاشتغالها بالتمثيل أو لمجرد تعبيرها عن رأيها في محبة التمثيل، وكان قرار أخيها على وجهها بلطمة وطرد من البيت إلى قسوة الشارع ومجهوله، وقت حدث سياسي زلزل مصر كلها، وهو حريق القاهرة عام 1952، لتسير ليلاً بلا مال ولا غاية من منطقة غمرة، حيث كانت تسكن مع أسرتها، حتى ميدان التحرير بوسط القاهرة، لتقودها خطواتها إلى منزل أستاذها في المعهد وقتها، الفنان سعيد أبو بكر، حيث أقامت هناك ثلاثة أشهر حتى تدبر أحوالها في حياتها الجديدة.

اشتغلت "الفتاة المطرودة" في مجال تفصيل الملابس والمفروشات للعرائس لتوفر المال لتأوي بين أربعة حيطان وتأكل ما يسد جوعها، وقدمّ لها زكي طليمات، فنان المسرح الكبير، الفرصة لتعمل بالفن. أسكنها في بيت طالبات واستأذن لها من القائمين عليه لتتأخر ليلاً، بسبب طبيعة عملها الجديد في المسرح الحديث.

حرمتْ نفسها من الأمومة ممارسة لأعلى درجة من درجات القسوة على النفس لتتفرغ لهوسها الفني الذي دفعت من أجله كل ثمن كانت تملكه. خشيت أن تعطّل الأمومة مشوارها، ولتكتمل المأساة، عاشت منذ بلوغها الخمسين في ندم شديد على قرارها بعدم الإنجاب. تمنّت بعد فوات الأوان أن يكون لها امتداد يؤنس وحشتها في آخر العمر، لكنها لم تنل كالعادة ما تمنّت.

مارست ظروف الحياة القسوة عليها، لم تترك غلظة ولا شدة إلا أغرقتها فيها. كان لها أهل تبرَّأوا منها لاشتغالها بالتمثيل أو لمجرد تعبيرها عن رأيها في محبة التمثيل، وكان قرار أخيها على وجهها بلطمة وطرد من البيت إلى قسوة الشارع ومجهوله، وقت حدث سياسي زلزل مصر كلها، وهو حريق القاهرة عام 1952، لتسير ليلاً بلا مال ولا غاية

سناء جميل، المولودة في مركز ملوي بمحافظة المنيا بصعيد مصر، في 27 نيسان/ أبريل عام 1930، كان لها شقيق وأخت توأم، انتقلت مع أسرتها إلى القاهرة قبل الحرب العالمية الثانية، ودرست في مدرسة "المير دي دييه" الفرنسية الداخلية، وتخرجت منها بعد إنهائها المرحلة الثانوية، وحين انتهى عمرها على الأرض بعد أن فتك بها سرطان الرئة في 22 أيلول/ سبتمبر 2002، تأخر دفنها أربعة أيام بأمر زوجها الكاتب الصحافي لويس جريس، الذي كان يأمل أن يأتي أحد من أفراد أسرتها لحضور مراسم توديعها، لعلمه أن زوجته كانت تحلم بأن تلتقي شقيقتها التوأم ولو لمرة واحدة قبل الرحيل، لكن الأسرة التي هاجرت من مصر، قررت أن تُنهي حياة ابنتها بخط أخير يغلف سلسلة القساوة وقسوة القلب وخشونة الدنيا على ممثلة وإنسانة من طراز فني نادر.

اللحظات السعيدة في عمر سناء جميل تكاد تكون معدودة، ولعل زواجها وقصة الحب التي جمعتها بلويس جريس، كان هدية أو تعويضاً أُهدي لنبيَّة على طول صبرها.

خلال فترة دراستها، شاركت سناء جميل في العديد من المسرحيات باللغة الفرنسية، التي كانت متمكنة منها، وبعدها قررت الدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، ثم انضمت لفرقة "فتّوح نشاطي"، وبالتوازي مع ذلك قدمت أدواراً صغيرة في السينما، لكن الدور الذي جعلها تدخل دائرة الضوء كان في فيلم "بداية ونهاية"، الذي قُدم عام 1960، والذي نالته بعد اعتذار الفنانة فاتن حمامة عنه، وعن هذا الدور قالت إنها أُصيبت بفقدان السمع بإحدى أذنيها بعدما صفعها عمر الشريف في أحد مشاهد الفيلم، وشاركت في 4 أفلام، كانت ضمن قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، وهي "بداية ونهاية"، "المستحيل"، "الزوجة الثانية" و"زينب".

التمثيل، كمعشوق هو الآخر، يُعنّفها كواقعها المؤلم.

قطعة سكر وسط المرارة

اللحظات السعيدة في عمر سناء جميل تكاد تكون معدودة، ولعل زواجها وقصة الحب التي جمعتها بلويس جريس، كان هدية أو تعويضاً أُهدي لنبيَّة على طول صبرها.

جمعتها بزوجها صداقة وطيدة، وقبل زواجهما قال لها إنه مستعد أن يغير ديانته من أجل أن يتزوجها، فقد كان يعتقد أنها مسلمة، لكنها فاجأته بأنها مثله مسيحية. تم الزواج بالفعل في الكنيسة، وذهب لويس جريس لإقامة المراسم فطلب منه الكاهن وجود شهود، فتوجه بنفسه إلى صحيفة "روزاليوسف" التي كان يعمل بها، وطلب من عمال المطبعة أن يأتوا معه ليشهدوا على زواجه من سناء، والذي استمر لأكثر من 41 عاماً، لتكون قصتها مع "لويس" كقطعة السكر التي تكسر سيول المرارة.

تأديب الذات

خلال تدريبها في بروفة أحد أهم أدوارها، شخصية بائعة السمك "فضة المعداوي" في مسلسل "الراية البيضا"، سألت سناء مخرج العمل عن مدى توافق لكنتها مع ما تتطلبه الشخصية، كأنها تستبعد نفسها من الدور وتعترف بأن جهازها الصوتي المبرمج على الفرنسية، ومنطوقها الغريب عن العربية وعامية الشخصية المرسومة لا يصلح، وهي التي لم تكن تعرف النطق الصحيح للغة العربية، حتى حينما تم اختبارها للقبول في معهد الفنون المسرحية اختارت مشهداً من مسرحية "كليوباترا" للشاعر أحمد شوقي، وكتبت أشعاره بحروف فرنسية لتتمكن من نطقها بشكل سليم.

أن تدفع نفسك دائماً للجلوس في الكرسي البعيد، هو أن تضع نفسك في محل المسؤولية الكاملة التي لا يرتضيها لنفسه إلا الإنسان الكامل أو الساعي للكمال.

وحين انتهى عمرها على الأرض بعد أن فتك بها سرطان الرئة، تأخر دفنها أربعة أيام بأمر زوجها الكاتب الصحافي لويس جريس، الذي كان يأمل أن يأتي أحد من أفراد أسرتها لحضور مراسم توديعها، لعلمه أن زوجته كانت تحلم بأن تلتقي شقيقتها التوأم ولو لمرة واحدة قبل الرحيل

ما بين عمل في المسرح والتدريب في البروفات والعمل في الخياطة والتطريز، عاشت سناء جميل في شقة متواضعة، قالت إنها نامت فيها على ملابسها مطروحة أرضاً، لأنها لم تكن تملك ما تشتري به مرتبة وسريراً، ما تسبب في إصابتها بانزلاق غضروفي.

يقفز في خاطري دائماً وجه سناء جميل، ومعه طباق في الشكل والمضمون، لصورة لنبات الصبّار، ذلك الذي ينبت في أكثر البيئات قساوة لكنه لا يملك من حيل إلا المقاومة، أو ربما استخدمُ هنا "المعافرة"، فغبار الصحراء يُعفّر أوراق الصبّار ويطمس خضارها، ولا يزيدها الأمر إلا صلابة وبقاءً، وليكون تمثيل سناء جزءاً من واقعها، فقد تماهت مع دور الممرضة "جيهان" في مسرحية "زهرة الصبّار" التي عُرِضت عام 1967، حين وقعت في غرام طبيب تعمل عنده، فصارت هي مثالاً للتضحية والمحبة والذوبان، وصار هو ممثلاً الواقع الذي يستغلها ويعصرها باستعلاء وقسوة، لترد هي بما تملكه من خلود منبعه بئر مقاومة تسكن بداخلها، وكعادة زهرة الصبار، تقابل الخشونة بالعطاء والتأدب.

وكدور لا ينتهي في حياتها، لعبت سناء جميل دور الراهبة التي تؤدّب محيطها مثلما أدبت نفسها بكل جدية، لا تخشى استعمال جرأتها وشَوْكها إن أرادت، لكنها دقيقة في اللجوء إلى أدوات انضباطها، فلا تستعمل قوتها الغاشمة التي تختزنها وتستدعيها بسهولة وقت اللزوم، لكنها في العموم تُظهر رقة الزهرة في مواجهة أي فعل أهوج يخرق لوحة السلوك القويم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard