شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
هل الأغنياء في مأمن؟ الحجر الطبقي ومساكن فقراء العالم

هل الأغنياء في مأمن؟ الحجر الطبقي ومساكن فقراء العالم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 1 أبريل 202002:35 م

يعيد الحجر الصحّي المفروض حالياً في أغلب دول العالم، تعريف المساحة الشخصية، تقديرها والانتباه إليها بوصفها أحد الحقوق التي ينبغي على الإنسانية، كتعريف كلي وعام ومليء بالخير والعدالة، تأمينها للأشخاص الذين بطبيعة الحال ينتمون إليها.

توابيت النوم

في سلسلة صور اسمها "المحاصرون" قام بتصويرها المصور "بيني لام Benny Lam" بين عامي 2012 و2015، للكبائن، أو "التوابيت" المصنوعة من الألواح الخشبية والتي تبلغ مساحة الواحدة منها متراً مربعاً فحسب، والتي يسكنها ما يزيد عن 200 ألف شخص في هونغ كونغ، بينهم 40 ألف طفل، مع انفجار سوق العقارات بحيث تصنف هونغ كونغ كمكان لأغلى العقارات في العالم، يعيش هؤلاء السكان حرفياً "القرفصاء"، حيث لا أمكنة كافية ليتمدد الشخص، ليريح أطرافه أو ليغير وضعية نومه، وحين يكون المسكن أكبر من متر بقليل يصيح المالك: "يجب أن تكون سعيداً، لديك نعش كبير"، يقول بيني لام.

"يجب أن تكون سعيداً، لديك نعش كبير"... تحيلنا أزمة اليوم إلى حقائق يعيشها فقراء العالم، ببيوت تشبه التوابيت لصغرها وبؤسها 

خلف الإعلانات البراقة والنيونات المشعة واللافتات المضاءة بالليزر، يوجد أشخاص يعيشون في مساكن مساحتها 1.80 طولاً و60 سم عرضاً، بأدوات مطبخهم وصحونهم وملابسهم، بتلفزيوناتهم ومراحيضهم ونباتاتهم المنزلية، كما بأحلامهم، إن استطاعوا الحفاظ على بقية منها، هم ليسوا غير مرئيين عن يومياتنا، هم بائعو متاجر وعمال توصيل ومصففو شعر، ندل في مطاعم وحراس وعمال نظافة أيضاً، يقول بيني: "هم يشبهوننا في كل شيء، الفرق الوحيد بيننا هو منازلنا، أي ما يصنع الكرامة البشرية".

فقراء العالم "يشبهوننا في كل شيء، الفرق الوحيد بيننا هو منازلنا، أي ما يصنع الكرامة البشرية"...

يتكرر الأمر، تتكرر هذه المفارقات الغريبة في طبيعة المساكن، مساحتها بالنسبة لعدد الأفراد فيها، في كل مكان من أحزمة البؤس في العالم، سواء كنا في ليما في البيرو، أحياء الـ"فافيلا" في البرازيل، مانيلا في الفلبين أو حتى في المناطق العشوائية المحيطة بدمشق في سوريا، أو في مخيمات النزوح في لبنان، الأردن، تركيا والعراق، تبدو المساحات كما هي معروفة غير موجودة، وحتى غير معترف بها كحق من حقوق الإنسان.

تبدو فكرة الحجر الصحي بحد ذاتها، لا أكثر من إقامة جبرية في منتجعات فاخرة... بينما في حزام الفقر حول العالم، من سوريا إلى البرازيل والفلبين، لا تزال الحياة اليوم سلسلة لا تنتهي من العذابات

في الوقت الذي يشتكي فيه الناس الموجودون ضمن الحجر الصحي، في باقي العالم، من الضجر وقلة الحيلة، وبرغم وجود كل وسائل الرفاهية الأساسية، من كهرباء، ماء، صرف صحي واتصال بالإنترنت، أي كل ما يجعل من فكرة الحجر الصحي بحد ذاتها، لا أكثر من إقامة جبرية في منتجعات فاخرة، تبدو الحياة الطبيعية لأولئك البشر عبارة عن سلسلة لا تنتهي من العذابات، بحيث يبدو مجرد الاستيقاظ بحد ذاته عملاً بطولياً يستحق أن تقام له الاحتفالات. في المساحات الضيقة، أحزمة البؤس الخانق، يتمشى الموت يداً بيد مع الطفولة والولادات الجديدة، حيث يعادل الحصول على قطعة اللحم الحصول على جائزة نوبل للكآبة.

الحجر الصحّي من جديد

يعود تاريخ ما يعرف بالحجر الصحي إلى القرون الوسطى، لكنه حالياً مفهوم يتعدى الأوبئة المنتشرة والطواعين والكوليرا، ليأخذ شكلاً طبقياً أكثر حسماً وصرامة، خصوصاً فيما يتعلق بتقسيم المجتمعات إلى فقراء موبوئين وأغنياء أصحّاء، أو إلى عمال وأرباب عمل، إلى رؤساء وقادة وجنود وبيادق. كانت الحدود الطبقية المرسومة باستمرار نقطة محورية في حركة المجتمعين أو الطبقتين باتجاه بعضهما البعض: يجب الفصل دوماً بين العامل ورب عمله، فصلاً مالياً، اجتماعياً وحتى دينياً، فبالتأكيد لن يشبه ربّ الفقير الشاحب، الذي يعاني من سوء التغذية، رب الغني المتخم، الذي تكاد تتفجر وجنتاه من الشحوم والتخمة.

عن فصل طبقي لا يتم اليوم التصريح به علانية، لكنه يأخذ مجراه الحقيقي عبر العديد من الإجراءات التي في ظاهرها تبدو مهتمة بصحة الناس، رفاهيتهم، بل وحتى صحّة الكوكب نفسه، لكنها في باطنها تقيم حاجز فصل عنصري بكل وقاحة، بين  أولئك الموجودون داخل النظام، السيستم، المالي والصحي والحياتي، وبين أولئك الخارجين عنه، المنفيين، المقطوعين

هذا الفصل الذي لا يتم اليوم التصريح به علانية، لكنه يأخذ مجراه الحقيقي عبر العديد من الإجراءات التي في ظاهرها تبدو مهتمة بصحة الناس، رفاهيتهم، بل وحتى صحّة الكوكب نفسه، لكنها في باطنها تقيم حاجز فصل عنصري بكل وقاحة، بين من يستطيعون القيام فعلاً بكل هذه الإجراءات أي أولئك الموجودون داخل النظام، السيستم، المالي والصحي والحياتي، وبين أولئك الخارجين عنه، المنفيين، المقطوعين، أكوام اللحم المفروم ضمن المخيمات وأكواخ الصفيح، فما يميز بشكل رئيسي العصر الجديد عن العصر القديم، هو أن السوط بدأ يعتقد نفسه رائعاً، كما يقول ماركس.

السجون والمساحات الشخصية

قد تبدو كوميديا سوداء فقط، لكن من الشروط الصحية التي أوردتها وزارة الصحة الفرنسية لشروط تربية الدجاج، كي ينطبق عليها وصف "العضوي"، هو وجود 10 دجاجات في المتر المربع، أي بما يعادل 19 كيلوغرام في المتر المربع، كنا نضحك من هذه الطرفة حين ننام على أحد جوانبنا، بحيث لا يحتجز الفرد أكثر من بلاطة واحدة، بعرض 40 سنتم، على طول الشخص، وفي كثير من المرات، كان السجناء ينامون على دفعات، بحيث يقف البعض ساعتين، لينام آخرون، ثم يتبادلون الأماكن.

في كثير من المرات، كان السجناء ينامون على دفعات، بحيث يقف البعض ساعتين، لينام آخرون، ثم يتبادلون الأماكن

وغالباً ما ننام في الممر المفضي إلى التواليت، بحيث يقف من سيستخدم التواليت على بطانية النائم ويتبوّل، هكذا بكل بساطة، وحين ينتقل الرذاذ إلى وجه النائم يقوم بمسحه، كأنه مجرد مطر خفيف فحسب، هذا ليس كابوساً، هذا جزء مما عشته أنا شخصياً في سجن مدني وليس في فرع تحقيق، جزء عشته على مدى أكثر من سنتين، مع سبعين شخصاً في غرفة واحدة، بحمام واحد، أما في فرع التحقيق فتلك تعتبر رفاهية، فلا يعطى الشخص أكثر من بلاطة واحدة، يجب أن يقلص جسده حتى ينام فيها.

لا يُعترف في أماكن مماثلة، سجون، مستشفيات أو حتى مدارس، بالمساحات الشخصية، المساحات مملوكة للسلطة فقط، تحتجزها، تضيّقها، تملؤها بما تريد، هي مساحتها الخاصة كمالك للفضاء برمته، للوطن بغاباته وعصافيره وأنهاره، وأنت أو أي شخص، شيء من ضمن هذه الأشياء، تبدو أكثر شبهاً بغرفة الكراكيب التي كانت النساء يستخدمنها لإلقاء ما ليس مستخدماً اليوم، وربما لن يستخدم مستقبلاً، أو لا لحاجة لرؤيته قريباً، حتى يجف من تلقاء نفسه وينخره السأم أو الرطوبة أو الموت، فيختفي من تلقاء نفسه، هكذا تتعامل السلطات مع المساجين، مع التلاميذ، مع المحجورين صحياً، أجزاء زائدة عن الحاجة، غير مفعّلة لا كبيادق ولا كأشياء، مهملة، غير ذات فائدة، تترك لتذوي من تلقائها، تختفي وتتلاشى في الهواء.

مساكن الرفاهية المختصرة

لا يقتصر الأمر على دول العالم الثالث كما قد نظن، بمزيد من الضغط من الشركات الكبرى، الكارتيلات الاقتصادية الضخمة، وتحت ضغط أسعار العقارات، يزداد الأمر صعوبة حتى في الدول الأوربية، حيث انتقل مفهوم تلك الغرف الصغيرة، من اليابان الذي اضطرت إليه بحكم قلة المساحات لديها في الثمانينيات، إلى تقليعة عمّت المدن الغربية بأكملها تقريباً، حيث ابتدأت بالمطارات ثم لحقتها الشركات التي تبحث عن استثمار أكثر ربحاً، فيتم استئجار "كبسولات" صغيرة مساحتها 5م مربع في برشلونة مثلاً، مصطفة بجانب بعضها كغرف، ومعزولة بأبواب بلاستيكية، وبعضها مساحته لا تتجاوز الثلاثة أمتار.

وفي أغلب المدن الكبرى الأوربية تنتشر "الكبسولات" هذه، ميلانو، وارسو، أمستردام، باريس وموسكو، فهي أفضل من النوم في الشارع، يقول أحد المالكين، إذ نشأت من حاجة العمال في سيؤول وسنغافورة لمكان للنوم فقط، لكن هذا يعتبراً ترفيهاً مرموقاً، إذ تتوفر فيها المياه النظيفة على الأقل، فقد نشر عمدة مدينة مونتريل التابعة لمدينة باريس، صورة لأحد المباني، يعيش فيه 240 مهاجراً من مالي، على حسابه في تويتر، قائلاً: "لقد رأيت البراز ينزف من طابق لطابق"، كمقدمة لإعطاء أمر للسلطات الأمنية لاجتياح المبنى وإفراغه من سكانه.

الحجر الطبقي

هل الأغنياء في مأمن؟ أرسل الفقراء إلى الجبهة... هكذا تقول الصورة الكاريكاتورية، وهذا ما تقوله أيضاً الحكومات التي وضعت قواعد الحجر الصحي الذي يناسب من يمتلك مالاً مدخراً فيصرف منه بلا حساب، بينما يقبع أولئك الفقراء، العمال المياومون، تحت رحمة الفيروس وبين أكوام نفايات الأغنياء، ينتزعون لقمتهم المغمسة بالوباء والموت، في حين يقسم الحجر عالم الأعمال إلى قسمين، قسم الراحة والاستمتاع وإدارة الأعمال عن بعد للأثرياء، وقسم الانغماس بالمخاطر وتحمّل التهديد عن البقية، يفرح البعض بأن الخوف الحالي وحّد الناس، أزال الفروق الطبقية وجمع المتخاصمين، لكن الحقيقة عكس ذلك تماماً، لقد أظهر بوضوح تلك الفروقات التي كنا نغطيها بقليل من الماركات المقلدة من الثياب، الأحذية، العطور، الحقائب وأدوات المكياج.

لقد أظهر الفيروس أن الأغنياء يتصرفون وكأن الكوكب كوكبهم فحسب، يتلاعبون به ويبددون موارده ويخربون بيئته

لقد أظهر الفيروس أن الأغنياء يتصرفون وكأن الكوكب كوكبهم فحسب، يتلاعبون به ويبددون موارده ويخربون بيئته، بينما يدفع الفقراء ثمناً باهظاً من أجسادهم وأنفاس أطفالهم، وفي حين يتبجّح الأثرياء باتباعهم أساليب النظافة المبالغ بها وصرفهم كميات مهولة من المعقمات والكحول، وإفراغهم المخازن من الأطعمة، اللحوم المجمدة والشوكولا، يحتار البقية بهذا الاهتمام الفجائي الذي هبط على الحكومات والمدراء التنفيذيين بصحّتهم، ويعرفون أن الأمر ليس أكثر من عدم الرغبة بخسارة بعض الأقنان رخيصي الأجر لا غير.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard