شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أيام الفزع في القاهرة… كيف

أيام الفزع في القاهرة… كيف "ترسم" قبضة الأمن حياتنا اليومية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 16 ديسمبر 201901:18 م

هذا النص ذاتي يعبر عن رأي كاتبه، أي أنا، ولا ينقل بالضرورة صورة مطلقة لحقيقة ما، إن وجدت مثل هذه الحقيقة.

ماذا حدث بعد 20 سبتمبر؟

الأسبوع التالي للتظاهرات كان قاسياً، ما دفع الكثيرين لتغيير نمط تحركاتهم اليومية. قررتُ مع بعض الأصدقاء إغلاق حساباتنا على مواقع التواصل الاجتماعي، واستبدالها بحسابات أخرى ننشر فيها مواضيع تتعلق بالموضة، الأزياء، كرة القدم، وبعض الصور "الإباحية"، لربما يكون ذلك شفيعاً لنا إذا تم توقيفنا.

آخرون اقترحوا استبدال الهواتف الذكية بأخرى قديمة غير متصلة بالإنترنت، وآخرون اعتقدوا أنه لابد أن نطلب إجازة من العمل، أو على الأقل أن نعمل من المنزل لتفادي الخروج والسير في الشارع، وإن كان لابد من ذلك، فعلينا أن نتحمل نفقات اقتصادية أعلى من المعتاد، من أجل استخدام وسائل النقل الخاص مثل "أوبر".

كان علينا أن نحدد بدقة الأماكن التي يمكننا أن نتحرك منها وإليها في الأيام التالية للتظاهرات. إذا كان مكان العمل الخاص بنا في محيط وسط القاهرة، فكان علينا اتخاذ إجراءات السلامة السابق ذكرها، ومن ثم علينا أن نتخلى على هاتفنا الذكي، أو ربما إغلاق أو استبدال حساباتنا على مواقع التواصل الاجتماعي بأخرى لا تثير الريبة، ولكن إن لم يكن ذلك ممكناً، فيتوجب علينا أن نطلب إجازة أو أن نعمل من المنزل حفاظاً على أمننا الشخصي.

لم نعد نأمل في أن تعود الحياة إلى "طبيعتها"، حيث يسير كل منا آمناً لا يفزع حين يرى رجال الأمن، فهي لم تكن كذلك أبداً، إلا ربما في أوقات معينة بعد يناير 2011

كان قراري صارماً فيما يخص تحركاتي، حيث الذهاب للعمل والعودة للمنزل مباشرة، تجنب السير في الشارع، تجنب المواصلات العامة قدر الإمكان. دارت الأحاديث في تلك الأيام حول من تعرض للإيقاف والتفتيش، من أُلقي القبض عليه، من قرر ترك القاهرة مؤقتاً ومن لزم بيته لمدة لا يعلم نهايتها. علينا أن نمارس حياتنا اليومية بشرط أن تكون "عينك في نص راسك"، أن تبحث جيداً عن كل الأماكن التي لا تبدو حياتك فيها تحت أعين الأمن.

"الأخ الكبير يراقبك"

في حقيقة الأمر، في مصر لا أحد يعرف شيئاً على الاطلاق، لا يوجد أشياء يمكن الاستدلال من خلالها على سياسات الأمن في التوقيف والاعتقال، فالجميع مهدد.

في مصر لا يكفيك اعتزال العمل العام لتشعر بالأمان النسبي لنفسك وللمحيطين بك، فالجميع موصوم بعار معارضة النظام الذي يعرف جيداً من معه ومن ضده، النظام يعادي الجميع باستثناء من يعملون معه ويعلنون تأييده صراحة دون مواربة. أنت في مصر حيث لا يكفيك الصمت، بل عليك المبادرة بالتأييد والعمل مع النظام "عشان تتقى شره".

"الأخ الأكبر يراقبك"، تلك الجملة المفزعة التي كان يراها مواطنو أوقيانيا في رواية 1984 لجورج أورويل، أصبحت واقعاً لدينا نحن المصريون، فإن لم يكن السيسي يراقبك بشخصه، فهناك المخبر ورجل أمن الدولة والمخابرات الحربية، في مصر الجميع مراقب، ولكن لا أحد يعرف كيفية اتقاء شر النظام والحفاظ على أمنه الشخصي، فليس هناك باب معين تأتي منه الريح لتسدها وتستريح... فالأبواب كلها تحت أعين أمناء الشرطة والمخبرين.

ماذا رأيت؟

كان علينا أن نختبر جيداً كيف يمكن أن يكون الإنسان في مهب الريح تماماً، حيث لا بديهيات هنا ولا توجد معايير للصواب والخطأ. كان علينا أن نختبر بشكل يومي كيف أن مزاج رجل الأمن كفيل بسحقنا وربما بإنهاء حياتنا للأبد.

كان علينا أن نرى بأن السير في أحد الطرقات يمكن أن يعرّيك تماماً أمام أحدهم: يعبث بهاتفك الخاص، يقرأ محادثاتك الشخصية، يتفرّج على صورك الشخصية، لا لشيء إلا لأنه يشتبه بك، أو ربما لأنه متعكر المزاج و"عايز يتسلى شوية".

في مصر لم تعد الحياة الرتيبة والمملة مضمونة، ولم يعد السير "جنب الحيط" وسيلة جيدة لتجنب "غلاسات" رجال الأمن. عليك أن تعلن تأييدك التام غير المشروط وألا تفعل إلا ما تؤمر به، ولكن هذا أيضاً لم يعد واضحاً بشكل كافٍ.

"الأخ الأكبر يراقبك"، تلك الجملة المفزعة التي كان يراها مواطنو أوقيانيا في رواية 1984 لجورج أورويل، أصبحت واقعاً لدينا نحن المصريون، فإن لم يكن السيسي يراقبك بشخصه، فهناك المخبر ورجل أمن الدولة والمخابرات الحربية

حينما تزداد القبضة الأمنية توحشاً لتطال الجميع في حياتهم اليومية وتحركاتهم في الشوارع، ليضطر الكثيرون إلى المكوث في منازلهم خوفاً من التوقيف، يصبح العودة إلى القبضة الأمنية الأخف والأقل توحشاً هو الأمل الذي نرغب في أن يتحقق

ماذا نريد؟

إذ كان هذا هو الوضع الجديد الذي اعتدنا عليه في الفترة التي تلت العشرين من سبتمبر، الوضع الذي تمنينا أن ينتهي لنعود إلى "الوضع الطبيعي"، ولكن هل كانت الحياة قبل ذلك عادية لدرجة أن نأمل العودة إليها؟

حينما تزداد القبضة الأمنية توحشاً لتطال الجميع في حياتهم اليومية وتحركاتهم في الشوارع، ليضطر الكثيرون إلى المكوث في منازلهم خوفاً من التوقيف، يصبح العودة إلى القبضة الأمنية الأخف والأقل توحشاً هو الأمل الذي نرغب في أن يتحقق.

يرغب الجميع في قبضة أمنية هادئة، تُظهر معيارية معينة للتوحش: عندما تفعل "كذا"، سوف تُعرض نفسك للتوحش... مجموعة من الأوامر والنواهي/ المرغوب فيها وعدم المرغوب فيها، هذا هو ما يتمناه الكثيرون، أن يكون هناك مجموعة معايير ونظام ما للتوحش يمكّننا من السير وفق أوامره وتجنب ما ينهينا عنه ببساطة.

لم نعد نأمل في أن تعود الحياة إلى "طبيعتها"، حيث يسير كل منا آمناً لا يفزع حين يرى رجال الأمن، فهي لم تكن كذلك أبداً، إلا ربما في أوقات معينة بعد يناير 2011.

ولكن نأمل في معايير معروفة ومتفق عليها للتوحش، ولا نرغب في مناقشتها أو الجدل حولها، فقط أن تظهر تلك المعايير للوجود، ويعلنها الأمن بوضوح، لنسير عليها أياً كانت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard