شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
هل فعلاً كل فنان مريض نفسي؟

هل فعلاً كل فنان مريض نفسي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 19 ديسمبر 201904:49 م

سيطر الاتحاد السوفيتي على مشفى الأمراض العقلية "سيربيسك" في موسكو، حينها كان يستخدم كبديل عن السجن، إذ كان المعارضون السياسيون يوضعون فيه، ويتهمون بأنهم مختلون عقلياً، سمعة هذا المشفى لم تتحسن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، إذ أودع فيه فنان الأداء بيوتور بافلنسكي، الذي قطع شحمة أذنه عام 2014 وهو يجلس عارياً على سور المشفى، الذي حاول "الأطباء" داخله إقناعه بأنهم يقومون بذلك لحمايته والحفاظ على حياته.


الحكاية السابقة ليست إلا واحدة من مئات الحوادث التي تكشف عن هيمنة المؤسسة السياسية والطبية التي توظف مفاهيم "الصحيح" و"العقلاني" و"الطبيعي" ضد ما هو مختلف، خصوصاً حين يوجه ضدها، ولا نتحدث هنا عن الاختلالات النفسية التي تحتاج لعلاج فعلاً، بل تلك التي يترك تشخصيها لمؤسسات أيديولوجية، وسمت لسنين طويلة العديد بأمراض وهميّة، كالهيستيريا النسائية، والنوستالجيا التي تصيب العبيد، وغيرها من التهم التي تتقنع بالطب لتخفي عنصريتها وتحيزها الجنسي. الأخطر أن المؤسسة الأدبية والفنية تتبنى أحياناً التعريفات الطبية وتدرجها ضمن العمل الأدبي، لتروج لطبيعتها، كحالة رواية "طرد الأرواح" الصادرة عام 1971 لويليم بيتير بلاتي، التي استفاد مؤلفها من تشخيص الهيستيريا النسائية لرسم صورة المرأة التي يتلبسها الشيطان.

يزداد الموضوع تعقيداً حين نتحدث عن "الفنانين" أنفسهم، بوصفهم مختلفين عن "الطبيعي" أو ممسوسين، ويمكن تتبع هذه الفكرة إلى بداية تشكل الفلسفة، إذ اقترن الفني والإبداعي بالجنون، وبصورة أدق بالشر، إذ نفى أفلاطون الشعراء من مدينته، كونهم كالفنانين يهددون الشكل القائم وأعرافه، لتبدو العلاقة بين المؤسسة الرسمية "الطبية والسياسية" وتلك الفنية في صراع دائم، محركه الخطر الذي تشكلهما كل واحدة على الأخرى.

هذ الخطر سببه قدرة "الفني" على نفي العالم وإعادة تكوينه. أي نفي الصيغة الكرنفالية الهزلية البذيئة والاستعراضية على حساب الصيغة الرسمية والجدية والأنيقة، المعالم التي رسختها الكلاسيكية الجديدة بكلمتي: "اللياقة واللباقة".

 المؤسسة الأدبية والفنية تتبنى أحياناً التعريفات الطبية وتدرجها ضمن العمل الأدبي، لتروج لطبيعتها، كحالة رواية "طرد الأرواح" الصادرة عام 1971 لويليم بيتير بلاتي، التي استفاد مؤلفها من تشخيص الهيستيريا النسائية لرسم صورة المرأة التي يتلبسها الشيطان

صورة الفنان "المجنون" الذي ينتظر الإلهام رافقت المبدعين، كونها تحمل إثارة من نوع خاص، وانغماس الكثير من المنتجين في الحقل الفني في هذا الخطاب زاد من غوايته، خصوصاً مع بدايات التحليل النفسي في القرن العشرين الذي رافق نشاط رواده إعجابهم بالفن وشخوصه، بل أن عيادة فرويد في لندن كانت أقرب لصالة في متحف، يمكن لمتأملها أن يرى كيف حاول دراسة النفس البشرية عبر ما أنتجته من "فنون"

أجريت دراسات إحصائية نفسية عديدة لإيجاد صلة بين الإبداع والأزمات العقلية، لكن علاقة الحرفة الفنية بالمعاناة النفسية بقيت أمراً يصعب إثباته بشكل قطعي، بسبب صعوبة تحديد تعاريف واضحة لكل من الإبداع والجنون. فالحالة الإبداعية لم يحسم كونها فطرية أو مكتسبة

الفنان ذاك الكائن الغريب

صورة الفنان "المجنون" الذي ينتظر الإلهام رافقت المبدعين، كونها تحمل إثارة من نوع خاص، تحفز الخيال وتروج للمنتج الفني الذي يتغير تعريفه بحسب الشكل الثقافي القائم، وانغماس الكثير من المنتجين في الحقل الفني في هذا الخطاب زاد من غوايته، خصوصاً في ظل الهالة التي كانت تحيط بالفنان والعمل الفني، وبدايات التحليل النفسي في القرن العشرين الذي رافق نشاط رواده إعجابهم بالفن وشخوصه، بل أن عيادة فرويد في لندن كانت أقرب لصالة في متحف، يمكن لمتأملها أن يرى كيف حاول دراسة النفس البشرية عبر ما أنتجته من "فنون".


ميوعة الجنون VS صلابة الوعي

أجريت دراسات إحصائية نفسية عديدة لإيجاد صلة بين الإبداع والأزمات العقلية، لكن علاقة الحرفة الفنية بالمعاناة النفسية بقيت أمراً يصعب إثباته بشكل قطعي، بسبب صعوبة تحديد تعاريف واضحة لكل من الإبداع والجنون. فالحالة الإبداعية لم يحسم كونها فطرية أو مكتسبة، ولا بد دوماً من الإشارة لتحيّز هذه التعريفات حين توجد، كونها تصنف وتستثني وتدعي دوماً "صحة" من نوع ما.

روجت الثقافة الشعبية للسلوك الغريب لدى الفنانين والمبدعين واحتفت به، فاشتهر الرسام فنسنت فان كوخ بقطعه لأذنه، وتردد صداه في الذاكرة الشعبية لكن ذلك لم ينف شهرة من عُرفوا بسلوك معتدل وطبيعي، مثل كلود مونيه، وذاع صيت الشاعرة سيلفيا بلاث، التي عانت من أزمات نفسية وأنهت حياتها منتحرة بالغاز، وأسرت قلوب المتابعين أكثر من معاصريها من الشعراء الموهوبين والأسوياء نفسياً، مثل زوجها الشاعر تيد هيوز، الذي كُشف مؤخراً أنه كان يعنفها، كما اشتهرت قصة الكاتبة فيرجينيا وولف التي يقال إنها عانت من خلل عقلي وهلاوس سمعية وبصرية انتهت بانتحارها، وكذلك أنهى حياته الروائي إرنست همنغواي، الذي انحدر من عائلة لها تاريخ طويل من الحالات النفسية، وعانى من مجموعة حالات، كالاضطراب ثنائي القطب والاكتئاب والنرجسية.

كل الحكايات السابقة ترى في الإبداع أو الإنتاج الفني واحداً من أعراض اضطراب ما، وهي قراءة سطحية تحاول إضفاء قيمة على المنتج الفني لا تنتمي له، فهل كان دو شامب مجنوناً حين قال إن مبولة هي عمل فنّي، وهل كان بافلنسكي "معتوهاً" حين قطع أذنه؟

الكوميديون/ات: "مجانين"/"مجنونات" العالم "الصحي"

انتشر اهتمام عالمي بالكوميديين المصابين بالاكتئاب، كما في وثائقي بعنوان "شرارة الجنون" الذي عرض على قناة سي إن إن، كجزء من سلسلة وثائقية من 8 أجزاء بعنوان "تاريخ الكوميديا"، يتحدث عن ممثلين كوميديين عانوا من أزمات عقلية مثل وودي آلن وإلين ديجنريس وروبن ويليامز الذي أودت الصعوبات النفسية بحياته، حين أقدم على الانتحار عام 2014، مع ذلك، ما زال هناك ميل للحفاظ على "تصور صحي" للنفس الإنسانية، خصوصاً حين يتعلق الحديث بالكوميديا المحاط تاريخها بالكثير من القمع والإخفاء، كأسطورة ضياع كتاب الكوميديا لأرسطو، وندرة المسرحيات الساتيرية، وتلاشي الطقوس الكرنفالية على حساب الأعياد المقننة، وهذا ما ارتبط بتاريخ الممثلين الكوميديين المنفيين خارج المدن والموصوفين بالبذاءة والتخريب والجنون.

هناك بعد سياسي يحكم تعريفات "فنان، مجنون، مبدع ومرض نفسي"، تتغير هذه التعريفات والقيم المرتبطة بها بحسب الشكل الثقافي القائم، وأسلوب النظر إلى المنتج الفني، خصوصاً الآن، في ظل تغير شكل الفن وأسلوب التعاطي مع الفنانين، فلا نسمع عن جنون جيف كونز أو قبله آندي وارهول، نعم هناك صعوبات و تقلبات نفسية يمر بها الفنان لكنها لا تختلف عن تلك التي يصاب بها "العاديون" إن صحّ التعبير، لكن هذه النظرة للاضطراب النفسي تتغير حين يدخل الفرد ضمن المؤسسة الفنية، لتتحول حكايته الشخصية ومتخيلاته عن العالم إلى جزء من عمله الفني، لـ"يختلف" اجتماعياً عن المحيطين عنه، أي عن السائد، الأمر أشبه باللعب، من يشارك باللعب يخضع لقواعده وزمنه وتتحول مشكلاته الشخصية إلى جزء من أدائه ضمن اللعبة، بل تمتد هذه العملية إلى كل ما ينتجه الفنان من مسودات وتخطيطات تبدو تمريناً، أو تعكس العملية الفنية وتطورها اضطراباً عميقاً في الشخصية، كحالة المراسلات الخاصة التي تنشر للعلن بوصفها أعمالاً أدبية، أو تكشف جوانب خفية من شخصية الفنان، لكنها حقيقة تعكس نشاطاً إنسانياً لا ينتمي للفني بل موقفاً من الفن نفسه بوصفه خارج الفنان، لا امتداداً للنشاط الفني.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard