شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"آمنوا به بصمت"... مأساة التعامل مع القرآن في مجتمعاتنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 2 ديسمبر 201904:43 م

مشهد 1: القرآن لا يعالج المرض النفسي

كانت هذه إجابة الطبيب النفساني المصري الشهير، أحمد عكاشة، في حواره لبرنامج "90 دقيقة" المذاع عبر فضائية المحور، مساء الاثنين 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، مستنكراً، كاختصاصي، علاج البعض للمرض النفسي بالقرآن، عبر الاستعانة بشيوخ يضربون المريض لاعتقادهم بوجود جنٍّ داخله. وأكد "عكاشة" أن "القرآن ليس معجماً طبياً، المؤمن زي الملحد في حالة المرض النفسي، الإيمان يقلل الألم ويجعلك في حالة رضا لكنه لا يشفي المرض".

مشهد 2: لا مساس

الدكتور جمال شعبان، أستاذ أمراض القلب ومدير معهد القلب بمصر سابقاً، قال في حواره لبرنامج "المساء مع قصواء"، على شاشة قناة "TeN" المصرية في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، إن الطقوس الدينية والاستماع إلى القرآن من الأشياء التي تريح القلوب، مستشهداً بدراسة قال إنها أكدت أن مجموعة مرضى بالاكتئاب استمعوا إلى سورة الرحمن بتلاوة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وكانت حالتهم أفضل ممن تناولوا العقاقير، حسب قوله.

في المشهدين السابقين، لم تختلف ردود فعل الجمهور عما قاله الطبيبان الضيفان، فقد أمطروهما بوابل من الاستعاذات والشتم، تعليقاً على خوضهما في هذا الأمر والمساس بالقرآن واستباحة سيرته، معتبرين الأمر تجاوزاً ولا مجال للدخول فيه، أو ذكره للتشبيه، أو التعامل معه باعتباره مقياساً لأمور دنيانا، وذلك لمجرد أنهما أدخلا القرآن في كلامهما كما لو كانت آياته مرفوعاً عليها لافتة "لا مساس".

زاد الأمر دهشة حين بثّت مؤسسة الأزهر منذ أيام بيانها الإفتائي التهديدي شديد اللهجة، والذي توعّد متناولي مسألة فرضية الحجاب بالويل، وقال بيان الأزهر إن "العوام لا شأن لهم بتوضيح آيات كتاب الله أو الخوض فيها أو حتى الاجتهاد"...

"نص سماوي لا علاقة له بأهل الأرض"

لا تمدحوه إذن... لا تذموه طبعاً... لا تناقشوه أصلاً... اعتبروه كأنه ليس موجوداً... هو نص سماوي وأمر سماوي لا علاقة له بأهل الأرض من "العوام"... لكن هل هذا أمر لنا نحن العوام لنخوض في حديث غيره؟

بحسب آيات القرآن، كنص سماوي يؤمن به 1.8 مليار مسلم، أي ربع سكان العالم، فنحن مأمورون بالتدبّر: "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب"، "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر"، "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون".

إذن بالنص، إن تعطيل هذا الأمر الإلهي بالتدبّر وإعمال العقل والتفكير يعد جريمة وحرمانية ومخالفة لما دعانا الله له، كما أن النصّ لم يذكر مَن هؤلاء الذين ينطبق عليهم فعل "التدبّر"، فلم يتم استبعاد "العوام" وقصر الأمر على العلماء الفقهاء الدارسين، فالكل في حضرة العقل مأمور.

"لدينا مشكلة في التعامل مع المقدسات بصورة عامة، وهذا يرجع لأن كثيراً من أسئلتنا واستفساراتنا في الصغر تم الرد عليها برد واحد، وهو: حرام، وهذا يعني عدم وجود إجابات مقنعة في الصغر لدى القائمين على التربية، بسبب جهلهم بالطريقة السليمة لبناء فكرة الإيمان داخل الطفل"، هكذا يشرح الدكتور عبد العظيم رمضان، استشاري الطب النفسي، مضيفاً: "الأسر في المجتمع المصري والعربي تعامل الطفل بمنطق الزجْر والنهْي، فكلمة (حرام) يتم تسجيلها في مخيلة الطفل ووجدانه على أنها الرد الوحيد لكل ما يتطرق له تفكيره، فيتولد لديه قلق من الاحتكاك بالمقدس، والقلق هنا نابع من قلة المعلومات في الأساس وغموض الموضوع".

وقال رمضان إن هذا الغموض "ضار جداً لغياب الإجابات عن الإله وماهيته والقرآن ومعانيه المختلف عليها"، فيكتفي الشخص بأداء الصلوات والصيام وخلافه، معطلاً تفكيره، فلا تكون هناك أي قناعة بما يفعل، ويزداد الخوف لديه، فيفضل أن يصون إيمانه الضعيف بألا يعرضه لأي محنة للنقاش مع العقل، واصفاً الأمر بأنه "خلل وعيب في التكوين الإيماني لدى الشخص"، لافتاً في الوقت نفسه، وهذا هو الأمر الصادم، إلى أنه أحياناً يكون هذا الغموض الديني مفيداً، مبرراً ذلك بـ"لئلا يُفتي الجميع بما ليس يعلمون وهذا سيؤدي إلى مرحلة من التيه واللغط".

رأي الاستشاري النفسي المستنير لم يخلُ من عقيدة الغموض التي ترسخ لها المؤسسة الدينية ورجالها، ما يؤكد خطورة توغل دوجما الدين وألغازها في وجدان المؤمنين على اختلاف مستويات تعليمهم واستنارتهم، ولعل هذا ما يذكرنا بالمأساة التي عاشها عميد الأدب العربي، طه حسين، حين تجرأ وناقش النص القرآني في كتابه الاستثنائي "في الشعر الجاهلي"، إذ قال في خضم حديثه عن وجود إبراهيم وإسماعيل النبيّيْن، إن القرآن لا يعتد به كوثيقة تاريخية تثبت وجود "إبراهيم وإسماعيل".

هنا قامت عليه الدنيا بزعامة مشايخ الأزهر، وتحول "العميد"، بسبب طرحه هذا، إلى النيابة بتهمة "تكذيب القرآن والإخلال بالنظام العام والطعن في دين الدولة الرسمي"، بحسب بيان للأزهر حينها، وجاء رأي النيابة بإنصافه بنص قولها: "غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه، إنما أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، حيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر، تحفظ القضية إدارياً".

لا تمدحوه إذن... لا تذموه طبعاً... لا تناقشوه أصلاً... اعتبروه كأنه ليس موجوداً... هو نص سماوي وأمر سماوي لا علاقة له بأهل الأرض من "العوام"... لكن هل هذا أمر لنا نحن العوام لنخوض في حديث غيره؟
أرى أن ما ذكره طه حسين منذ أكثر من 93 سنة يتمثل أمامنا كل يوم إذا ما أتى ذكر نص سماوي على لسان عالم أو باحث، أيا كان شأنه، كأننا صرنا لا نريد أن نقترب من هذه الأمور ويصيبنا هوس مجهول المصدر بأننا حتما سيطالنا أذى ما

لكنها للأسف أشارت في نفس بيانها إلى الآتي: "لكن الأستاذ المؤلف وضع السؤال وحاول الإجابة عنه وتطرق في بحثه إلى الكلام على مسائل في غاية الخطورة، صدم بها الأمة الإسلامية في أعز ما لديها من الشعور، ولوّث نفسه بما تناوله من البحث في هذا السبيل بغير فائدة ولم يوفق إلى الإجابة"، ما يعني أن إنصاف النيابة أنكر على الباحث بحثه، الذي أكد فيه ضرورة ألا ينبغي الاطمئنان إلى ما قاله السابقون وأخذه دون بحث أو تمحيص، بل يجب أن نناقشه ونشك فيه شكاً علمياً دقيقاً، باعتبار أن الركون إلى المتاح دون مناقشته يؤدي إلى الجمود والتحلل.

وأرى أن ما ذكره طه حسين منذ أكثر من 93 سنة يتمثل أمامنا كل يوم إذا ما أتى ذكر نص سماوي على لسان عالم أو باحث، أيا كان شأنه، كأننا صرنا لا نريد أن نقترب من هذه الأمور ويصيبنا هوس مجهول المصدر بأننا حتما سيطالنا أذى ما، رغم أنه بإمكاننا أن ندع من يقول لما يقول، دون خوف أو اتهام أو قلق، بإمكاننا أن نتجاهل الرأي الذي لم يتفق معنا، بإمكاننا أن نبحث وراء المسألة المُثارة، التي أشعل فيها أحدهم عود كبريت، قد نصل إلى جديد، وقد نؤكد قديماً، لكن المؤكد أن عود الكبريت لا يستحق هذه الضجة في كل مرة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard