شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كيف يعمل عقل السيسي؟

كيف يعمل عقل السيسي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 29 نوفمبر 201906:33 م
Read in English:

Inside President Sisi’s Mind

التفاصيل الصغيرة كثيراً ما تكشف عن خطوط عريضة لقصص أكبر. ما شهدناه خلال صِدَام عبد الفتاح السيسي مع "مدى مصر" خير شاهد. في دولة بوليسية مثل مصر، عندما يتحرى رجال أمن بملابس مدنية عن محرر مسؤول مثل شادي زلط يعمل في الموقع الإعلامي المستقل الذي يتمتع باحترام هائل "مدى مصر"، فإن هذا يدعو إلى القلق.

قُبض على شادي بعد 72 ساعة من نشر تقرير حول إبعاد محمود السيسي –ابن الرئيس- إلى روسيا ملحقاً عسكرياً بسبب فشله المهني في إدارة عدد من الملفات التي أسندها والده إليه، بعد أن تولى السيسي الابن منصباً رفيعاً في جهاز المخابرات. أداء الابن أدى لازدياد الغضب على سياسات الأب، وتسبب له بمزيد من الضرر السياسي.

السيسي مثل نظيره الأمريكي ترامب، يرى أن الصحافة عدوة الشعب

يوم الأحد الماضي، اقتحم 9 ضباط مقر "مدى مصر"، وصادروا الهواتف وفتشوا أجهزة الكمبيوتر واعتقلوا ثلاثة صحافيين، بينهم لينا عطالله مؤسسة الموقع ورئيسة تحريره. أفرج لاحقاً عن شادي زلط وزملائه الثلاثة. وفي اليوم التالي ادّعى النظام أن "مدى مصر" إحدى أذرع الإخوان المسلمين. هل يخرج هذا عما اعتاده النظام؟ لا. ولكنه يفرض السؤال: كيف يعمل عقل السيسي؟ 

السيسي هو مكيافيلي العصر الجديد، السياسي الانتهازي الذي لا يتورع عن سفك الدماء. أحياناً تُبدي سياسته الخارجية ملامح خافتة من العبقرية، وفي أحيانٍ أخرى يتبدى الغباء الكامل والفخر بالجهل. يُنزِل عنفه بالناس مشفوعاً بابتسامة ومغلفاً بفيض يومي لا ينقطع من الأكاذيب المغمورة بالغطرسة، كل هذا يجعل السيسي حالة جديرة بالدراسة وأخطر رئيس في تاريخ مصر المعاصر.

النرجسي يحتاج إلى وسائل إعلام تردد صدى صوته

على سبيل المثال، يمكننا أن ننظر إلى الصحافي المخلص للنظام ياسر رزق، الذي يطلق تصريحاته قائلاً "إن السيسي منح الإعلام وحرية التعبير سقفاً غير مسبوق"  بعد ساعتين اثنتين من اقتحام "مدى مصر". ليست تصريحاته سوى ترديد لصدى صوت السيسي عندما قال لمحطة CNN الأمريكية: "لا أريد أن أبالغ، لكنْ لدينا في مصر حرية تعبير غير مسبوقة". السيسي نفسه الذي قال للمصريين إن عليهم ألا يستمعوا لأحد سواه، لا يرى غضاضة في تكميم الأفواه، خاصة إذا مسّت الألسنة سيرة عائلته.

يقول مصدر من الدولة العميقة مفسراً ما حدث لـ"مدى مصر": "إنها "قرصة أُذن" ضرورية، هناك دائماً "خطوط حمراء" عندما يتصل الأمر بالأجهزة الأمنية والأمور المتصلة بالدولة العميقة".

على الرغم من عقل السيسي الإستراتيجي، فإن هذا العقل نفسه يحمل خليطًا من البارانويا وجنون العظمة واضطراب الشخصية النرجسية. وفي الفترة المقبلة سنشهد المزيد من النزوع إلى القتل من دون تفكير أو تعاطف
السيسي هو مكيافيلي العصر الجديد، السياسي الانتهازي الذي لا يتورع عن سفك الدماء. أحياناً تُبدي سياسته الخارجية ملامح خافتة من العبقرية، وفي أحيانٍ أخرى يتبدى الغباء الكامل والفخر بالجهل

السيسي مثل نظيره الأمريكي ترامب، يرى أن الصحافة عدوة الشعب. على عكس ترامب، يتمتع السيسي ببعض الذكاء الذي يجعله لا يقول هذا صراحة. بدلاً من ذلك، ظهر السيسي مرتدياً ثياب الأخ الأكبر في لقاء مغلق جمعه مع عدد من العسكريين بعد أشهر قليلة من ثورة 25 يناير 2011. تحدث في ذلك اللقاء عن السيطرة على الصحافة، وأجاب عن سؤال أحد الضباط الصغار المستائين من "رفع القيود" وتخطي الإعلام للخطوط الحمراء عقب الثورة وفي فترة حكم مرسي.

طمأن السيسي الضابط وطلب منه ألا يقلق، وأن استعادة السيطرة على الإعلام مسألة وقت "أنت محتاج أذرع، وتكوين هذه الأذرع محتاج وقت ومجهود". ويستطرد السيسي "هل إحنا بنعمل على دا؟ أكيد. هل بنصل لنتائج؟ بكل تأكيد". كان السيسي محقاً، فالسيطرة كانت قادمة بكل تأكيد. وحلم السيسي بمصر التي لا تسمع إلا صوته أصبح كابوساً مصرياً متحققاً. 

"أنا الدولة والدولة أنا"

هل هذه الغطرسة جزء من شخصية الرؤساء عموماً؟ لا.

 الحياة الباذخة التي يحياها السيسي تسببت بأكبر شرخ في جدار حكمه حتى اللحظة، وبعد 65 شهراً في الحكم. فاستعراض الغطرسة أمام عيون العامة، وقد أهان خلاله 60% من المصريين، تسبب باندلاع الاضطرابات.

بعدما أعلن البنك الدولي أن 60% من المصريين فقراء أو على حافة الفقر، لم يسعَ السيسي إلى إنكار ما قاله محمد علي عن القصور العديدة التي ابتناها لنفسه ولأسرته. في جلسة نقلتها الشاشات إلى البيوت المصرية، قال السيسي: "آه أمال إيه؟ أنا عامل قصور رئاسية. وهاعمل، الله! هي ليا؟". في عقل الديكتاتور الذي يتلبس شعار "أنا الدولة": بناء قصور لنفسه هو بناء "دولة جديدة". فهو والدولة واحد لا ينفصم.

المُختَّل الخفي

الجمع بين نقيضين: عقدة نقص شديدة، وشعور لا أساس له بالعظمة، يمكن أن يفسر نزوع السيسي إلى العنف والدماء. مثل جراح يرى في السكين حلاً وحيداً، يرى السيسي في الجيش حلاً وحيداً.

السيسي والعنف

في 25 يوليو 2013 صار من الواضح أن أوامر السيسي هي "الضرب في المليان". قتل يومذاك 26 شخصاً وأصيب 850.

يوم الجمعة 26، حدث تحول خطير في الأسكندرية حينما تصادم مؤيدو السيسي مع متظاهرين، فلقي 5 مصرعهم واصيب أكثر من 100. مع كل قطرة دم، تتضاعف الأسئلة: لماذا اختيرت وصفة العنف؟ كيف ولماذا يدعي رجل أنه جاء لينقذ مصر من الحرب الأهلية، فيدفع بالبلاد لما يدعي أنه جاء لينجيها منه؟ السيسي ومعاونوه في الجيش كانوا يعيدون صياغة ما يأمله المجتمعان المحلي والدولي من بناء نظام قائم على احترام حقوق الإنسان الأساسية.

المخيف هو أن ذهنية السيسي العسكرية لا ترى الصراع الاجتماعي والسياسي إلا في ضوء الثنائيات، إما الانصياع والخضوع التام أو تشمل نيران الموت الجميع. الأحداث التي تلت ذلك الأسبوع الدامي كانت نزع أحشاء الإخوان المسلمين، ثم تثبيت أركان الحكم أطول وقت ممكن وإعطائه خاتم النجاح أياً يكن الثمن.

قبل مذبحة رابعة، في 27 يوليو 2013، قتل 82 مصرياً بدم بارد من دون همسة معترضة. لقد صار عقل السيسي يحكم الوجدان الجمعي للمصريين. وعندما وصلنا لنقطة قتل 1000 مصري في يوم واحد وحرق جثامين الكثير منهم في رابعة، لم تعد رؤية السيسي غامضة أو خفية، إنها إما أن تَقتُل أو تُقتَل.

كيف يمكن إذن أن ينظر الناس لرجل عنيف ذي نظرة أحادية يجرد فيها معارضيه من إنسانيتهم، باعتباره رجلاً رومانسياً ذا لمسة حنونة؟ عبد الفتاح يرى نفسه أذكى شخص في العالم، إنه مرض قاتل، إذ يقوده للاعتقاد بأنه الوحيد القادر على فهم ما يفعله وكل الذين حوله أغبياء. يحوّله هذا إلى مريض غير قابل للعلاج.

القائد العام للكذب

بعد تمضيته عامين على مقعد الرئاسة، سمت الـ BBC عبد الفتاح السيسي بـ"الرئيس الباسم". بإمكانك أن تضحك على هذا التصور، لكن هذه الابتسامة سلاح لدى السيسي، لا بهدف كيد منتقديه، بل لغسيل أدمغة الملايين الذين مثلوا جمهوره وداعميه. ستظل عبارة "إنتو مش عارفين إن انتو نور عينينا ولا إيه" ملتصقة بحكمه الدموي. ينظر السيسي بشوق إلى الكاميرا وكأن المستمعين إليه امرأة جميلة يغازلها، فيما يسرد حكايات كوميدية غير مقنعة عن البطولة والفداء. في الحقيقة، في لحظة لا تصدق، تحدث السيسي بطريقة مهينة إلى النساء مستخدماً مصطلحات جنسية فجة لوصف مصر عندما قال: "مصر كشفت ضهرها وعرِّت كتفها في 2011".

 يكرر السيسي هذا المنهج طوال الوقت. يطلق الأكاذيب ويصبح أول من يصدقها. هو واثق من أتباعه الذين يدورون حوله كما يدور المريدون حول إمامهم: "طب والله العظيم. أنا قعدت عشر سنين. تلاجتي كان فيها ميه بس ومحدش سمع صوتي. عشر سنين تلاجتي كان فيها ميه بس!". ما يدعيه السيسي يهين ذكاء الشخص العادي، هذه الإهانات يرددها الإعلام ولا يشكك مؤيدوه فيها.

في السيسي تتجسد أمثولة الرجل الذي يؤمن بأن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه. هل تذكرون عندما وصف نفسه بطبيب الفلاسفة وبأنه مثلٌ أعلى للعلماء والمفكرين والفلاسفة الذين يأتون من كل العالم ليستمعوا إليه ويتعلموا منه؟ عندما تحيا في فراغ لا يملأه إلا أفكارك أنت، ستنفصل تماماً عن الواقع وستتحكم بك الهلوسات، وتصبح الأكاذيب التي يصدقها تابعوك المستفيدون قصراً من السحر الأسود، تحيا فيه من دون أن تدرك أنه وهمي.

عندما يتقدم رجل أقسم على ألا يترشح للرئاسة لكي يستحوذ على هذا المنصب لعقود تتجاوز السنوات الثماني التي كان يعطيه الدستور الحق بها، علينا أن نرى بوضوح أن هذا الرجل مصاب بجرثومة الكذب، لكنه برغم ذلك يجرؤ على أن يمسك الميكرفون ويقول: "مشكلة كبيرة تعرفوها عني، إني صادق قوي وأمين قوي إن شاء الله".

 على المعارضين أن يقلقوا من حاكم يرى العالم عبر مطلقات حاسمة: إما أنك معه أو ضده، ميت أو خاضع للتعذيب في شبكته المتنامية من السجون وأقبية التعذيب.

على الرغم من عقل السيسي الإستراتيجي، فإن هذا العقل نفسه يحمل خليطاً من البارانويا وجنون العظمة واضطراب الشخصية النرجسية. وفي الفترة المقبلة سنشهد المزيد من النزوع إلى القتل من دون تفكير أو تعاطف. لا نحتاج إلى رسالة دكتوراة في علم النفس، كل ما نحتاجه هو كلمات السيسي نفسه، وما رأيناه في تصرفاته التي تكشف بوضوح عما في هذا العقل المختل. 

 معارضو السيسي عليهم أن يتسلحوا بالفهم الكامل لما يعصف في ذهنه من اضطرابات، فالمعلومات والفهم هما سلاح من يعارضون هذا الرجل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard