شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
حين تقف السيارات مكانَ أبطال الأفلام... حكاية صالات سينما أُغلقت في القاهرة

حين تقف السيارات مكانَ أبطال الأفلام... حكاية صالات سينما أُغلقت في القاهرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

السبت 30 نوفمبر 201905:31 م

بدأ عشقى للسينما منذ صغري، عندما كان والدي يمسك بيدي لنسير إلى السينما القريبه من منزلنا بمصر الجديدة، فقد كان والدي محباً لجميع أنواع الفنون، مثل الموسيقى بأنواعها والرسم ومشاهدة الباليه، وكان من محترفي الباتيناج بمصر عندما كان صغيراً. ربما لذلك بدون قصد زرع حبّ السينما والفن بكلّ عائلتنا الصغيرة. فلن أنسى فرحتي بخطواتي الصغيرة واقترابها من "سينما كريستال" لمشاهدة الأفلام فيها.

عند وصولنا إلى لسينما كانت تستقبلنا محلّات الآيس كريم (الجيلاتي) بوريفاج، الموجود على يمين الساحه التي تسبق بوابة دخول السينما، ومحل سندويتشات السجق (ماجيك،) ورائحته التي لن أنساها يوماً. كانت توجد هناك محلات أخرى في الساحه الموصلة إلى شباك التذاكر، ولكن كان محل بوريفاج ومحل السجق هما المسيطريْن على رغبة روّاد السينما.

عند وقوفنا أمام شباك التذاكر نجد رجلاً مبتسماً يرحب بنا، ويتمنى لنا مشاهدة ممتعة، ويدلّنا على أماكن أفضل مشاهدة للعرض إن لم يكن مقرّراً مسبقاً مكان جلوسنا.

صالة السينما تمتلئ بعشاقها، وبعض الرجال الذين يرتدون زياً أنيقاً لاصطحابنا إلى مقاعدنا والترحيب بنا، وينصرفون مباشرة ليستقبلوا عشاقاً آخرين.

السينما كانت تنقسم إلى قسمين؛ القسم الأول، الصالة، وكان يمثل ثلثي مساحة السينما، والقسم الآخر يعلو عنها بدرجتين، وينقسم إلى جزء أمامي وهو عبارة عن صفين من الكراسي بعرض ثلاثة كراسٍ محاطيْن بسور صغير، وذلك لجلوس العائلات وكان يطلق عليه "لوج"، أما بقية المساحة الخلفية هي المسماة "بلكون".

عند دخولكم السينما تشعرون بأنكم في حديقة محاطة بالأشجار وسماء مفتوحه تملؤها النجوم دعوةً إلى انسلاخ أرواحكم لعالم السّحر والفنّ.

ولكن عند منتصف السبعينيات اقتحم هذا العالمَ ماردٌ إسمنتيّ بالجانب الشمالي، فتمّ إزالة الأشجار عند بناء هذا المتطفل للصالة. كان برجاً من اثني عشر طابقاً ملأ الجانب بأكمله، وكان الطابق الأول منه بشرفة كبيرة، وفي الطابق الثاني يوجد حوالي ستة أمتار من الردود بشرفات صغيرة متتالية.

استمرّ ولع محبي سينما كريستال والوقوف أمامها بالعربات لتناول الاآيس كريم وسندويتشات السجق رغم إغلاقها، وقد تسلَّل الحزن إلى ساحة السينما الموصلة لشباك التذاكر الذي أصبح مجرّد ذكرى مغطاة بالأتربه وخيوط العنكبوت

كنا نرى سكّان الطابق الأول وضيوفهم يجلسون معنا في السينما، وللحقّ فقد كانوا ضيوفاً يقدّرون الفنّ، فلم نرَ منهم أيّ فعل يفسد متعة مشاهدتنا للأفلام، بل أصبحت مشاهدتهم واصطفافهم في الشرفة لمشاهده العرض جزءاً من مشاهدتي للعروض، والطريف أنهم بالاستراحة للفيلم، كانت استراحتهم أيضاً لتناولهم العشاء، وإنارة الشرفة الخاصة بهم.

في أوائل الثمانينيات أغلقت سينما كريستال للتجديد كما قيل في تلك الأيام، وبعدها أذيع أنها بيعت لنجمٍ من النجوم. ثمّ سمعنا أنه سيحوّلها إلى مسرحٍ خاصّ به، ومرّت السنوات ولم تُجدّد، بل أصبحت مبنى مهجوراً.

لا أحد يعلم لماذا أغلقت "كريستال"، فقد كانت محلّ تنفسٍ لسكّان مصر الجديدة، وكانت تمتلئ بالروّاد دائماً، كما كان فنانو ومخرجو السينما الذين يسكنون مصر الجديده من روادها، من أمثال المخرج سمير سيف، والمخرج محمد خان، والممثلة ميرفت أمين، وغيرهم.

استمرّ ولع محبي سينما كريستال والوقوف أمامها بالعربات لتناول الاآيس كريم وسندويتشات السجق رغم إغلاقها، وقد تسلَّل الحزن إلى ساحة السينما الموصلة لشباك التذاكر الذي أصبح مجرّد ذكرى مغطاة بالأتربه وخيوط العنكبوت.

سنوات الإغلاق ألقت بظلالها على المحلّات التي كانت تعتمد على روّاد السينما في استمرار نشاطها، فقد بدأ التغيير في تحوّل محلّات الساحة إلى مجموعة من المقاهي، وشرب الشيشة، واستسلام محلّ بيع الآيس كريم لاسمٍ كبير في عالم المهلبيه والأرز باللّبن،  ولكن المُضحك أن يبقى تعريف الموقع الجديد للاسم الكبير بذكر اسم المحلّ القديم أي "بوريفاج".

كم تمنيت أن تعود الأضواء لكريستال عند مروري أمامها، وفي أحد الأيام ذهبت إلى شراء الخبز في شارع يوجد خلف سينما كريستال، وكانت الصدمة بانتظاري، فقد فُتح بابٌ خلفيّ للسينما بجانب المخبز، وتحوّلت صالة العرض إلى ساحة انتظارٍ للسيارات. سألت: منذ متى؟ وكانت الإجابة: منذ سنوات قليلة؛ فقد قرّر صاحب السينما تحويلها إلى ساحة انتظار للسيارات، فهي أكثر ربحاً من كونها صالة سينما تحتاج إلى أموال لإعادة إحيائها. لا أذكر سوى أنني ابتعدتُ سريعاً من المكان، فقد كان بمثابة انهيارٍ لذكرياتٍ جميلة لمكان بالقلب مع والدي رحمه الله.

بعد عدة أشهر تمالكتُ نفسي وقرّرتُ دخول ساحة الانتظار لمواجهة ما بداخلي، ولابدّ من تقبّل التغيير، فهذه سنّة الحياة. دخلتُ ووقفتُ بسيارتي بنفس مكان جلوسي مع والدي لمشاهدة الفيلم، وتجوّلتُ بعينيّ حول المكان الذي تمّ خنقُه بأبراجٍ إسمنتية من كلّ الجوانب. قد تحوّل نبض المتفرجين وضحكاتهم وأنينهم وفقاً للمشاهد المعروضة أمامهم إلى سيارات تعلن وفاة ذلك الزمن. حمدتُ الله أن موقف السيارات بابه خلفياً، وأن الواجهة الأمامية مازالت كما هي.

قد أصبحت يافطة اسم "سينما كريستال بالاس" بالاسم القديم تعلن عجزها عن مزاحمة يافطة حديثة كتب عليها "ساحه انتظار سينما كريستال بالاس"

منذ عدة أشهر، ونظراً للإقبال الكبير للسيارات، فقد تمّ إنشاء مدخلٍ أمامي لساحة الانتظار،  وعُلقت يافطة تعلن عن وجودها، ووقف قاطع تذاكر الدخول مكانَ شبّاك قطع تذاكر السينما القديم بعد إزالته لإنشاء الممرّ لدخول الروّاد الجُدد منه.

وقد أصبحت يافطة اسم "سينما كريستال بالاس" بالاسم القديم تعلن عجزها عن مزاحمة يافطة حديثة كتب عليها "ساحه انتظار سينما كريستال بالاس".

لقد كانت سينما كريستال أحد دور العرض الصيفية بمصر الجديدة الجميلة بجانب "سينما بالاس" و"سينما غرناطة" التي كانت تقام بها حفلات الغناء التي تنظّمها الجامعات بعد إطلال الجامعات الإسلامية بالثمانينيات، وافتعال المشاكل للحفلات التي تقام بالكليات،  فكانت سينما غرناطة الحلَّ ليتنفّس فيها الطلبةُ الذين تربوا على حبّهم للفنّ والغناء. ولكن للأسف قد تحوّلت "سينما غرناطة" هي الأخرى إلى حطامٍ متهالك، و"سينما بالاس" قد أُغلقت من أجل التجديد منذ سنوات. ولكن يبقى الأمل في تجديد عروض "سينما بالاس" الشتوية والصيفية، وعروض "سينما غرناطة" الصيفية بعد عودة اللاهتمام بالقوة الناعمة ومساندتها مرة أخرى.

لكن هل يوجد هذا الأمل لموقف سيارات "كريستال"؟ أتمنى ذلك! وإلى ذلك الوقت يمكنكم كلّما زرتم مصرَ أن تمرّوا من هذه الصالات وتدعوا لها بحياة زاهية كما كانت من قبل.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard