شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ساحات الثورة اللبنانية تنظّف نفسها بوعي شبابها

ساحات الثورة اللبنانية تنظّف نفسها بوعي شبابها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 7 نوفمبر 201903:59 م

منذ أن بدأت ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر وأمور كثيرة لم تعد على حالها. هناك شيء ما تغيّر لدى اللبنانيين. هم أنفسهم تفاجأوا.

هناك طلاب في مدرسة رسمية في صيدا على سبيل المثال لا يتجاوز عمرهم 13 عاماً، يستطيعون أن يوصلوا صوتهم في قضايا اجتماعية عجز كُثر من الذين يكبرونهم سناً عن أن يُعبروا عنها بالثقة نفسها.

الشباب أعطوا الثورة بُعداً جديداً ويُسهمون في تعميق أسس هذا الحدث الاستثنائي الذي يمر به لبنان ويحوّله إلى فعل تغييري غير مرحلي.

اكتشف اللبنانيون في لحظة حاسمة أنهم قادرون على التعبير عن أنفسهم بعد أن كتموا أصواتهم كثيراً. بين خيبة وأخرى تنقلوا. كانوا دائماً يحلمون بالأفضل، لكنهم أبداً لم يؤمنوا في السابق بقدرتهم على النهوض بأنفسهم وببلدهم كما هي حالهم اليوم.

ما الذي تغيّر؟ لعل التجارب التي مرّوا بها في المرحلة الماضية صقلت شخصياتهم الوطنية، لا الحزبية ولا الطائفية ولا المناطقية، وساهم أيضاً في عملية الصقل هذه الوضع المزري الذي يعيشه البلد على كافة المستويات.

وأيضاً والأهم، إن الجزء الأكبر من المشاركين في هذه الثورة هم من فئة الشباب التي لم تشهد الكثير. هذا جيل يستقي معلومته من عالمه الافتراضي المفتوح على كل شيء. أبناؤه عاشوا تجارب غيرهم ورأوها واليوم يعيشون تجربتهم المختلفة تماماً عما كان سائداً.

هذا الواقع والخليط، يؤشر إلى الوعي الذي وصل إليه كل مَن هو في الشارع اليوم، الوعي الذي يظهر يومياً بشكل واضح، والذي يكبر مع كل ساعة تمر على هذه الرحلة التغييرية.

مَن يتنقل بين مختلف ساحات الاعتصامات، يشعر بشيء مختلف عن كل ما مرّ به من قبل، عن كل تحرك مطلبي في السنوات الأخيرة، وليس مبالغة القول أيضاً عن كل تحرك مطلبي/ سياسي منذ ما بعد انتهاء الحرب الأهلية بتسوية الطائف.

وهذا ليس انتقاصاً من كل ما سبق، بل هو واقع ما يحدث الآن مقارنة مع ما سبق. اللبنانيون بغالبيتهم تعلّموا من دروسهم الخاصة ودروس مَن سبقوهم في نضالات ما، من أجل قضايا ما.

شباب ثوار يقودون الثورة. هذا الثابت الوحيد بعد أكثر من 20 يوماً من مراقبة حركة الساحات. هناك، بين رياض والصلح وساحة الشهداء في وسط بيروت، الكثير من الطموحين. حقهم. هناك أيضاً الكثير من الوعي ومن الذكاء لدى شباب هذه الثورة. همس هنا وهناك عن تسويات تُحاك تحت الطاولة، لا تمرّ على شباب الساحات. هم بكل بساطة يرون أنفسهم خارج كل إطار، مطالبهم يستطيعون هم أن يُعبروا عنها دون أن ينتظروا أي أحد يدّعي المعرفة ويريد أن يكتسب الشهرة أو أن يقطف ثمار ما يبذلونه هم، بعرق أيام القهر التي عاشوها قبل 17 تشرين الأول.

"شباب الثورة اللبنانية يرون أنفسهم خارج كل إطار، مطالبهم يستطيعون هم أن يُعبروا عنها دون أن ينتظروا أي أحد يدّعي المعرفة ويريد أن يكتسب الشهرة أو أن يقطف ثمار ما يبذلونه هم، بعرق أيام القهر التي عاشوها قبل 17 تشرين الأول"
"في الصباح، يخرج طلاب لبنان لينادوا ببلد يُشبه طموحاتهم. في المساء، تخرج الأمهات ليضئن الشموع، ويحرسن أطفالهن، "قادة الثورة". هنا بيروت. هنا لبنان"

شباب ينتقلون من خيمة إلى أخرى ومن نقاش إلى آخر. طلاب جامعات قادرون على التعبير عن أنفسهم وعن مطالبهم أكثر من الذين يقودون الحوارات المتنقلة بين المجموعات المنتشرة على طول الساحات. هناك وجوه قديمة تحاول أن تطل برأسها بين الناس لتستعيد حيثية ما. في المقابل، هناك مَن لا يرى في الوجوه التي خاضت تجارب فاشلة أي جديد يُمكن أن تقدمه له.

أكثر من ذلك، الخليط بين العنصر الشاب وكبار السن يضخ في الساحات دينامية مميزة يتحوّل من خلالها أصحاب التجارب إلى محفزين على الثورة لا مُنظرين لها. الشخصيات النمطية لا تجد مكاناً لها بين الناس. كُثر يعلمون ذلك ويستمتعون بفعل المساندة. "الاستغلاليون" لن يمرّوا. ثقة كبيرة يتحدث بها الشباب. ثقة غريبة وحلوة في الوقت نفسه.

هؤلاء الشباب، ليسوا فقط وقود الثورة المطلبية. هم حراس الثورة أيضاً. يصوّبون بوصلتها، لا بل يسهرون على حمايتها.

يوم الخميس، في 24 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وصلت إلى ساحة الشهداء بعد الظهر، شاحنة محملة بمكبرات الصوت. تجمهرت حولها مجموعة شباب متحمسين ظهر أنهم نزلوا لهدف واضح: تحوير المطالب والتصويب على فئة دون أخرى، مع مزيج من شتائم كان طابعها استفزازياً والمقصد منها واضح.

وقف شباب الساحة على مقربة من هذه المجموعات، يشاهدونهم ويبتسمون، من دون أي رد فعل يُذكر. بعد ساعتين، ملّت المجموعات المنظمة. "ضبضبت" شتائمها وخرجت من ساحة تُنظف نفسها بوعي شبابها. هؤلاء الشباب لم يروا في حياتهم لا احتلالاً ولا وصاية ولا ميليشيات، ولا تعنيهم قدسية الأحزاب والشخصيات. في الساحة تسقط كل محاولات جرّ الناس إلى مكان لا يشبههم ولا يريدون أن يكونوا فيه.

على مقربة من مبنى العازارية، في وسط بيروت، مجموعة من الشابات والشباب كانوا يتناقشون بُعيد استقالة الحكومة، ويسألون: ماذا الآن؟ سؤال حاول كثر الإجابة عنه إلا أنهم اختلفوا حول الأسلوب والتكتيك والغاية. لكن، هؤلاء الشباب كان لهم رأي مختلف. انبرت إحدى الشابات المتواجدات في الجلسة لتقول التالي: "لماذا نحن علينا أن نجد لهم الحلول. فليشكلوا حكومة ويخرجوا بالحلول. نحن في الشارع تحوّلنا من سلطة ضغط إلى سلطة رقابة ومحاسبة. نأخذ ما يُعجبنا ونرفض ما لا يُناسب طموحاتنا. الشارع لنا، ولن ندعهم يُدخلوننا في نقاش حكومات ومشاركة وأشكال محاصصة". صمت قصير، وافقها بعده الجميع على رأي يراه البعض أذكى بكثير من طروحات "لا تخدم أهداف الثورة" ويتردد صداها في خيم قريبة من المكان.

لا شيء في الساحات يعلو فوق صوت الشباب الذين تحوّلوا من مجموعات تهتف وتحشد إلى أفراد قادة. يعرفون ما يريدونه وخطابهم المتقدم يطغى على كل ما عداه. مشهد مدارس لبنان، خير مُعبّر عن هذا الوعي الاستثنائي لدى هؤلاء الشباب. مَن لا يتجاوز الـ15 عاماً صار يُدرك طبيعة النظام الذي يريده.

مُلفت غياب الحديث تقريباً عن وحدة اللبنانيين وملفت سقوط شعارات التضامن بين الطوائف. هذا السقوط يشي بأن هؤلاء الشباب يخرجون أصلاً من مكان وطني لا يحتاجون فيه إلى تبرير انتماءاتهم ولا تثبيت أنهم خرجوا من قيود طوائفهم ونظامهم الأبوي الذي أصلاً حاول أن يربّيهم على هذا الفصل، لكنه على ما يبدو سقط.

في الصباح، يخرج طلاب لبنان لينادوا ببلد يُشبه طموحاتهم. في المساء، تخرج الأمهات ليضئن الشموع، ويحرسن أطفالهن، "قادة الثورة". هنا بيروت. هنا لبنان.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard