شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الحبّ في اللغة العربية… حاضر في الإنترنت ومقموع في الحقيقة

الحبّ في اللغة العربية… حاضر في الإنترنت ومقموع في الحقيقة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 28 أغسطس 201912:35 م

عندما تبحثون باللغة العربية على محرّك البحث غوغل عن "إظهار الإعجاب في العلن" فإن أولى النتائج التي ستصادفونها، هي التي تنصح فتاة بكيفية إظهار إعجابها بالرجل!

في مجتمعاتنا العربية، ورغم كل ما تعانيه المرأة من انتهاكاتٍ لحقوقها وحرياتها وكبتٍ وقهرٍ على مستويات عدّة، لازالت الفتيات مطالبات بتعلّم كيفية إظهار إعجابهن بالرجل المسؤول عن أغلب هذه الانتهاكات.

أما عن نتائج البحث عن "إظهار الحب في العلن" فحدّثوا ولا حرج، فالإجابات في منتهى الحيرة والتضارب، ما بين دراسةٍ نفسيةٍ لأهمية إظهار الحب في العلن، والسؤال عن الحب في الإسلام، والبقية كلها تتحدّث عن كتمان المشاعر والحب بصمت للجنسين!

بينما انتشرت على حوائط الشباب في فيسبوك وتويتر، صورةٌ من إبداع اليونسكو احتفالاً بيوم اللغة العربية (18 ديسمبر من كل عام)، تمثل تشابكات وتداخلات ثمانية وثلاثين مفردة تمثلّ درجات الحب في اللغة العربية، هذه الصورة نُشرت منذ سنوات، وحظيت بانتشار وإعجاب كبيرين، لم يكن على قائمتي أحد من الأصدقاء إلا وأعجب بها أو أعاد نشرها، ما جعلني أتساءل، لماذا لا أشاهد هذه المعاني في الحياة اليومية؟

تتعدّد احتمالات الإجابة على هذا السؤال، يأتي في أولها الدور الجندري "نمط الدور الاجتماعي"، وهي تصوّرات المجتمع عن التصرفات المفروضة والمقبولة من "الرجال"، تنتظر منه أن يفترض أنه مستقل وصلب ولا يعبّر عن مشاعره في العلن، ولهذا ينشأ الكثير من الرجال على عدم إظهار مشاعرهم أو الإيمان بأهمية التواصل حولها حتى في السر، في حين يتوقع من النساء أن يكن دائماً عاطفيات واعتماديات ومتقبلات لأي تغيّرات، ويعبرن عن مشاعرهن بسهولةٍ وكثرة، لم يكن الوضع على الفيسبوك مختلفاً، فهذه الصورة المعبّرة عن الحب في اللغة العربية، وجدت صدى لدى النساء على حائطي، وقمن بإعادة نشرها أكثر من الرجال، ولا يختلف الوضع في الواقع كثيراً.

في العام الماضي انتشرت حادثة لزوج وزوجة مصريين كانا يستقلان الحافلة العامة، وقامت الزوجة بالاستناد على كتف الزوج أثناء الطريق، في لمحة تعبٍ تحمل شبهةً رومانسية، ليفاجئ الزوج بأحد الركاب: رجل ملتح غاضب يدفع امرأته في ظهرها ويأمرها بالابتعاد عنه، وعندما حاول منعه وأوضح أنهما متزوجان، قام الرجل الملتحي بضربه!

لم يخجل الرجل المعتدي ممّا فعله، وواجه كاميرا المحمول الخاصة بالزوج بثقةٍ، ما جعل محاولات التهدئة من الركاب تفشل فشلاً مزرياً، وتصاعد الأمر سريعاً ليحاول الزوج أخذه إلى قسم الشرطة، لكن الناس تضامنوا مع المعتدي وقاموا بتهريبه، بعدها نشر الزوج القصة على حسابه في فيسبوك، لينهال سيلٌ من التعليقات عليه تتهمه "بالدياثة" وأخرى تتهمه "بانعدام النخوة" وغيرها من الصفات التي لاحقته لمجرّد أنه "وافق" ولم "يبادر" مثلاً، بالتلامس مع زوجته في حافلة عامة في شوارع القاهرة.

ذكّرني الأمر بحادثةٍ شخصية، حيث كنت في حديقة عامة بالقاهرة منذ بضعة أعوام، تذاكر دخولها ترتفع عن المعتاد في الحدائق العامة والمتنزهات في العاصمة، ورغم أن أهل المنطقة لهم تخفيض خاص للدخول، إلا أن هذا لم يمنع فرض بعدٍ طبقي لمن يستطيعون دخول الحديقة، وبالأخص تناول الطعام في مطاعمها، كما كان هناك مسرح كبير لهيئةٍ ثقافيةٍ إقليمية، ما جعلها تجذب المزيد والمزيد من الشباب والشابات من طبقاتٍ مختلفةٍ ومنفتحة، كانت وجهة مميزّة للتنزّه في مدينة تفتقد للمساحات الخضراء.

كان رفيقي عائداً من العمل واتفقنا على تناول وجبة الغذاء وقضاء بعض الوقت هناك، وأثناء تنزّهنا جلسنا على مقعد أمام البحيرة في منتصف الحديقة، واستندت برأسي على كتفه أثناء الحديث، لنفاجئ نحن الاثنان برجلٍ ملتحٍ مع زوجته المنقبة وأطفاله، قام إلى مجلسنا وبدأ الصراخ بأن هذا مكان عام وأن ما نفعله حرام، ولا يصح أن يرى أطفاله هذه المشاهد في الشارع! وعندما صحت في وجهه أنا أيضاً، تجاهلني وبدأ في توجيه الكلام لرفيقي لأنه رجل، ولأنه لا يكلم "الحريم"! وبسرعة استدعى حارساً من أمن الحديقة، وتجمّع الناس وبدأ الجميع في الصياح، وانهالوا علينا باللوم، لأن بطبيعة الأحوال الخطأ كان من نصيبنا، رغم كل محاولات الصياح المضاد.

مرّت سنوات على هذه الحادثة، ولم أفقد بعد إيماني بأهمية إظهار الحب في العلن، لكن الوضع كان يزداد سوءاً، ففي كل مرة تخرج علينا صورة إنترنت أخرى تحمل معانٍ أكبر للحب في اللغة العربية، أصبحت أتوجّس، منذ أيام انتشرت هذهِ الصورة، لتذكّر متحدّثي العربية بأن للحب نصيباً كبيراً في ألسنتهم، وأن أفعالهم يجب أن تتحلّى بهذه المعاني أيضاً.

الصورة المعبّرة عن الحب في اللغة العربية، وجدت صدى لدى النساء على فيسبوك، وقمن بإعادة نشرها أكثر من الرجال، ولا يختلف الوضع في الواقع كثيراً في عدم إظهار الكثير من الرجال لمشاعرهم حتى في السر، مقارنة بالمتوقع من النساء من حيث التعبير عن مشاعرهن
في حالات إظهار الحب والإعجاب علناً، فالناس يتدخلون فوراً لمنع الشاب والفتاة من إظهار هذه العاطفة، لأنها تتم بالتراضي، المرأة فيها كائن مساوٍ للرجل، لها رغبة مستقلة يجب أن يتم إقرار وجودها في إطار اللمسات المتبادلة وابتسامات الرضا، وهذا يستدعي فوراً تدخّل الرجال الرجعيين 

في نفس التوقيت الذي نعاني منه من اعتبار النساء اللاتي يتمّ التحرّش بهن في شوارع مصر، هن ساعيات إلى ذلك في أقصى تقدير، ويستحقينه في أقل تقدير، فبالنسبة لعقلية الرجل المتواجد في الشارع في نفس اللحظة التي يقع فيها التحرّش الجنسي بامرأة: لماذا يتدخّل ليمنع رجلاً من انتهاك امرأة، هو نفسه لا يراها تستحق التواجد في المجال العام؟

وفي حقيقة الأمر، أصبحتُ أعتقد أن جزءاً من عقلية الرجال في عدم الدفاع عن النساء في حالات التحرّش والشكوى، أن الرجال يعرفون جيداً أن هذا يتم بعدم رضا المرأة عنه ورفضها، مجرد شكواها منه وارتفاع صوتها بالسباب أو الصراخ أو محاولات الذهاب لقسم الشرطة تعني أنها لا تريد هذه اللمسة، والأخطر أن لها حق تحديد القبول والرفض، والتضامن معها يعني تمكينها من هذا الحق والاعتراف أن لها رغبة يجب احترامها.

بالمثل، في حالات إظهار الحب والإعجاب في العلن، فالناس يتدخلون فوراً لمنع الشاب والفتاة، سواء كانوا متزوجين أم لا، من إظهار هذه العاطفة، لأنها عاطفة تتم بالتراضي، المرأة فيها كائن مساوٍ للرجل في الحقوق والواجبات، لها رغبة مستقلة يجب أن يتم إقرار وجودها في إطار اللمسات المتبادلة وابتسامات الرضا والسعادة، وهذا يستدعي فوراً تدخّل الرجال الرجعيين والمتدينين، والنساء اللواتي استبطنّ القمع الذكوري في أحيان كثيرة، لمنع هذا التموضع الجديد على المجتمع، فإما التحرّش الذي يعني قطعاً القوة والسيطرة الذكورية وإجبار النساء على القبول بالشروط القاسية للتواجد في الشارع، أو العودة إلى المنزل والاعتراف بأن للرجال الغرباء في الشارع الحقَّ في التحرّش بهن، فلن تستمتع امرأة بحياتها الطبيعية ورغباتها ومشاعرها تجاه شريكها إلا في ظل أربعة جدران، وضمن عقد زواج ديني يحدّد شرعية العلاقة، وموافقة المجتمع المحيط، وبعض العقبات والعراقيل السياسية والاقتصادية الأخرى!

لا يعني هذا التوقف عن الاحتفاء باللغة العربية ومعاني الحب المتعددة فيها، ولكنها دعوة لأن نتبناها فعلاً في حياتنا اليومية، فلمسة وكلمة تغلّفها العاطفة، ستحاصر هذا الجفاف في يومٍ ما، وقطرةٌ فقطرة ستستدعي المطر!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard