شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
معضلة الدب القطبي... عندما تطاردنا الأفكار وتتحول إلى هوسٍ

معضلة الدب القطبي... عندما تطاردنا الأفكار وتتحول إلى هوسٍ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 20 أغسطس 201903:46 م

يعيش العديد من الأشخاص حالةً من القلق نتيجة بعض الأفكار التي تسيطر عليهم، وبالرغم من جميع محاولاتهم إلا أنهم يعجزون عن التوقف عن التفكير، فيغرقون في دوامةٍ لا متناهية من الصراعات والأفكار السوداوية التي تتخبّط في رأسهم، والتي تمنع عنهم النوم أحياناً، أو حتى مواصلة العيش بشكلٍ طبيعي.

تعمل آمال (33 عاماً) في إحدى المدارس اللبنانية، وبالرغم من دخولها مجال التعليم منذ أكثر من 10 سنوات، إلا أنها لا تزال تشعر برهبةٍ عند دخول الصف والوقوف أمام التلاميذ، بخاصة "المشاغبين" منهم.

"فوبيا المواجهة"، كما تصفها، تجعلها في قلقٍ دائم وتسيطر الأفكار السلبية على ذهنها، بخاصة عندما يحلّ الليل، فتخطف الهواجس النوم من عيونها وتبقى أحياناً مستيقظة طوال الليل بانتظار أن يدق المنبه لكي تجهز نفسها "لمعركتها اليومية".

وعن هذه النقطة تقول لرصيف22: "بوعا أوقات من عزّ نومتي وأنا عم بفكر بالدرس والشرح وكيف بدي لحق فسّر كل شي بساعة واحدة وما إتلبك بوجه التلاميذ"، وتتفاقم المشكلة ويزيد القلق والتوتر حين يحين موعد الامتحانات: "بحس كأنو أنا يلي عندي امتحان...بعيش بقلق كل هالفترة لأنو بالنهاية أنا المسؤولة عن نجاح التلاميذ"، وتضيف:"بعيش يومياً عذاب نفسي وبفكر ألف مرة إترك هاي المهنة بس المشكلة مش بالتعليم، المشكلة فيي أنا وبراسي يلي ما بيعرف يرتاح".

عذاب مستمرّ

من الطبيعي أن ينصبَّ تفكير كل شخص منّا على الأمور التي تشغل البال، إلا أن بعض الأشخاص لا يستريحون من وابل الأفكار السوداوية، فسواء كانوا يلومون أنفسهم على خطأٍ ما ارتكبوه بالأمس، أو في حال كانوا يشعرون بالقلق حيال كيفية نجاحهم في الغد، فإن هؤلاء يجدون صعوبةً في التوقف عن الهوس بالأشياء وإزاحة فكرةٍ معيّنة من رأسهم، ما يجعلهم في حالة عذاب مستمر.

يعيش العديد من الأشخاص حالةً من القلق نتيجة بعض الأفكار التي تسيطر عليهم، وبالرغم من جميع محاولاتهم إلا أنهم يعجزون عن التوقف عن التفكير، فيغرقون في دوامةٍ لا متناهية من الصراعات والأفكار السوداوية

أما بالنسبة إلى"مونولوجهم" الداخلي فيتضمن نمطين من التفكير: إما التفكير لحدّ الهوس بالأمور التي حدثت في الماضي، كالقول مثلاً: "لم يكن ينبغي عليّ قول ما قلته أثناء الاجتماع، لقد نظر إليّ الجميع بطريقةٍ خاطئة...كان من الأفضل أن أهتم بأموري وألّا أتدخل في شؤون الآخرين..." أو الشعور بالقلق الذي ينطوي على توقعاتٍ سلبيةٍ حول المستقبل، وهي توقعات تكون كارثية في الكثير من الأحيان: "سوف أحرج نفسي غداً خلال ورشة العمل، سوف ترتجف يداي وسيصبحي لون وجهي أحمر كالبندورة، وسيعتبرني الجميع غير أهلٍ لهذه المهمة"، ناهيك عن هاجس المرض الذي يصيب البعض ويتوهم بأنه في حالةٍ صحية حرجة: "سوف أمرض وأفارق الحياة في سن مبكرة...".

ومما لا شك فيه أن هناك علاقة قوية بين طريقة التفكير والشعور المترتب، فطريقة التفكير تؤثر على الحالة العاطفية والتي تؤثر بدورها على طريقة التفكير، فعندما نشعر بالحزن مثلاً ننظر إلى العالم نظرةً قاتمة، ونكون أكثر عرضةً للتركيز على الأمور السلبية، وننخرط في النقد الذاتي السلبي، ونتنبأ أن الأمور ستنتهي بشكلٍ سيءٍ، وفي المقابل عندما نبدأ في التفكير بشيءٍ محزن فإن ذلك سينعكس على حالتنا النفسية وسنشعر فوراً بالحزن والكآبة، وبالتالي نغرق في حلقةٍ يصعب كسرها.

معضلة الدب القطبي

قد يكون من الصعب جداً عدم التفكير في شيءٍ ما....

بالعودة إلى العام 1863، طرح الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي في مقاله "ذكريات شتاء عن مشاعر صيف"، تحدياً جاء فيه: "حاولوا ألا تفكروا في الدب القطبي، جرّبوا الأمر إذا أردتم".

في وقتٍ لاحقٍ صادف عالم النفس في جامعة هارفرد دانيال فيجنر هذه الجملة، وتعجّب شخصياً بمدى صعوبة حجب أفكاره عن الدب القطبي الأبيض.

وفي العام 1987 نشر الدكتور فيجنر نتائج بحثه العلمي في مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي، وفي حين أن التجربة كانت بسيطة للغاية إلا أن النتائج كانت مفاجئة بالفعل.

فقد طلب فيجنر من مجموعةٍ من الأشخاص وصف وعيهم بصوتٍ عالٍ أثناء التفكير في الدب القطبي وذلك على مدى 5 دقائق، وفي كل مرة كانوا ينجحون بهذه المهمة، كانوا يتلقون تعليمات بقرع الجرس.

وأعطى الباحث التعليمات نفسها للمجموعة الثانية ولكن مع فارقٍ واحدٍ: طُلب من المشتركين عدم التفكير في الدب القطبي، إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك على الإطلاق، وقاموا بدق الجرس بمعدل يزيد عن مرة واحدة كل دقيقة.

وأخيراً، طلب فيجنر من المجموعة الثانية تكرار التجربة مع التفكير المتعمد في الدب القطبي، وعندها اتضح أن هؤلاء قرعوا الجرس أكثر من المجموعة الأولى التي طلب منها أن تفكر في الدب منذ بداية الاختبار.

وبالتالي خلص ويجنر إلى القول بأن محاولة عدم التفكير في الدب القطبي ساهمت في ترسيخ هذه الفكرة أكثر فأكثر في الذهن وعدم إمكانية التخلص منها.

هذا وقد أجرى ويجنر أبحاثاً متعددة لمعرفة سبب حدوث هذه الظاهرة، وتبيّن له أنه في حين هناك جزء من المخ يقوم بإيقاف التفكير في الدب، فإن هناك جزءاً آخر من المخ يقوم بفحص مدى نجاح هذه العملية، وبالتالي يذكّر المرء بالدب مرة أخرى، هذا وقد أطلق الباحث على هذه العملية إسم "العملية الساخرة" وهي بالتأكيد ليست مثالاً على عمل دماغنا بأفضل أحواله، فنحن بدورنا إذا قمنا بهذا التمرين الفكري البسيط لوجدنا أنه حتى وإن أغمضنا عيوننا وحاولنا بكل جهدنا إزاحة الفكرة من ذهننا، فإننا لن نتمكن من نسيان الدب الأبيض ولو لدقيقةٍ واحدة.

من أخطر الأمراض النفسية

يمكن القول إن هناك "دباً أبيض" في رأس كل واحدٍ منّا، فهذه المعضلة قد يختبرها الكثير من الناس في حياتهم اليومية، سواء كان تفكيرهم منصبّاً على الحياة العاطفية أو المهنية، أو مسائل متعلقة بالظروف المعيشية وغيرها، غير أن التفكير يتحوّل إلى هوسٍ مرضي حين تسيطر فكرة معيّنة على رأسنا وتغيّر إيقاعه اليومي.

محاولة عدم التفكير في الدب القطبي ساهمت في ترسيخ هذه الفكرة أكثر فأكثر في الذهن وعدم إمكانية التخلص منها

تكشف المعالجة النفسية نيرمين مطر، أن الهوس يعتبر من أخطر الأمراض النفسية التي تصيب الإنسان والتي تؤثر على روتينه اليومي: اضطرابات في النوم، عدم القدرة على التركيز في العمل، العجز عن إتمام المهام اليومية....

وعن الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة، توضح مطر أن الهوس هو نتاج الضغوطات الاجتماعية والظروف المعيشية والاقتصادية الصعبة التي قد يعيشها المرء: فقر، ضغوطات في العمل، اضطراب العلاقات العاطفية، فقدان شخص مقرّب... هذا بالإضافة إلى السبب الأهم وهو العامل الوراثي، مؤكدةً أن الهوس قد يطال جميع الناس دون استثناء، بخاصة أولئك الذين يعانون من فرط الحركة ومن النوم المتقطع والإجهاد.

وفي حديثها  مع رصيف22، تشير مطر إلى أن أعراض الهوس كثيرة ومتعددة، من بينها: التعرّق، خسارة الوزن بشكل متطرّف، التهوّر في التصرفات، كاشفةً أن بعض الأفراد يعانون من الهوس في الرغبة الجنسية وبالتالي فإن موضوع الجنس يطغى على تفكيرهم، ما يجعلهم يمارسون الجنس مع أشخاص قد لا يعرفونهم.

هذا وقد شددت نيرمين على ضرورة تشخيص الهوس بسرعةٍ للسيطرة على جميع الأعراض المصاحبة له، وذلك تحت إشراف طبيبٍ نفسي يصف الأدوية اللازمة بالتوازي مع معالجٍ نفسي يُخضع الفرد لجلساتٍ علاجية: "إذا كان هناك شخص تسيطر عليه أفكار الإصابة بمرضٍ ما، فإن طريقة العلاج قد تكون عن طريق تغيير الفكرة نحو النقيض، كأن يطلب مثلاً من الشخص المعني أن يكتب عكس ما يفكر به...وهي تعتبر أنجح طريقة في العلاج"، على حدّ قولها.

التخلص من الأفكار المسيطرة

بالإضافة إلى العلاج عن طريق الكتابة، يكشف موقع Big Think عن بعض الطرق العملية التي من شأنها مساعدة المرء على التخلص من فكرةٍ ما تحولت إلى هوس في رأسه:

-إعادة توجيه التركيز على شيءٍ آخر يثير الاهتمام: فقد وجد ويجنير أن هذه الطريقة نجحت عندما تمّ استبدال موضوع الدب الأبيض مثلاً بسيارة فولسفاكن حمراء اللون، فتحول بالتالي التركيز من الدب إلى السيارة.

-تخصيص وقت آخر للتفكير في الموضوع: بعض الناس يجدون أنه من المفيد تخصيص أوقات محددة، ربما ساعة واحدة في اليوم، للتفكير في بعض المسائل الشخصية العالقة، والهدف من ذلك هو أن يسمح المرء لنفسه بتأجيل الهوس إلى وقت ملائم وإبعاد الفكرة عن طريقه في الوقت الراهن.

-تقليص تعدّد المهام: يبدو أن الأشخاص الذين يقومون بمهام عديدة في الوقت نفسه يميلون إلى التفكير بالموت أكثر من مرة، وهو أحد الدببة البيضاء الكلاسيكية والأكثر خبثاً.

-المواجهة: من المهم تخصيص بعض الوقت لكي يستحوذ الموضوع على تفكيركم وذلك بغية إخراج هذه الفكرة في وقتٍ لاحقٍ من رأسكم بطريقةٍ أسرع.

-التأمل: من شأن التأمل أن يعزز القدرة على التحكم بالعقل وإيقاف عجلة التفكير عند الضرورة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard