شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
تفتيش الأوركيد وقُبَلٌ حرّة ... عن رحلتي الأولى إلى بيروت

تفتيش الأوركيد وقُبَلٌ حرّة ... عن رحلتي الأولى إلى بيروت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الأحد 1 سبتمبر 201903:31 م

صَعُب عليّ اتخاذ القرار، إنها الرحلة الأولى التي أتخلّى فيها عن أخذ كتاب. لكنّها بيروت، وحين تقول "بيروت"، تتساقط الكتبُ مثلما تقترب من شجرة جوز محملة بثمرتها تنتظر يداً كي تلمسها، فتغطّيك بكرمِها. إذاً راحل إليكِ يا بيروتُ دون كتاب!

بعد أن ركبنا الطيارة المتجهة من الأهواز إلى طهران، والتأخر الذي حدث، وصلنا بعد منتصف الليل إلى طهران. المدينة تستعدّ لغفوتِها الكبيرة، ونحن نبحث فيها عن غفوة قصيرة لنرحل بعدها. استقبلَنا صديقٌ في منزله، أو أنقذنا بعد أن أنفقْنا الوقت بين الفنادق الفارغة مجازاً والممتلئة واقعاً، فبرامج الفنادق الإلكترونية تعلن عن خلو الغرف، بينما أصحاب الفنادق يُقسمون بليلِ طهران أنّ فنادقهم ممتلئة.

صباحاً ومع أوّل خيطٍ فجري، تسلّقنا سدرة الرحلة إلى المطار قبل الرحلة بخمس ساعات. التفتيش في البداية، ثمّ تسليم حقيبة صديقي، بينما احتفظتُ بحقيبة ظهري. وحان ختم الجواز. لم يكن الحصول على ختم الجواز سهلاً، فقد جلس بجانب الضابط مبتدئٌ يتعلم كيفية النظر في الوجوه، والتأكد من ملفّه وتطبيق القانون بحذافيره والتأخير المتعمّد لالتقاط أقلّ حركة مريبة، وكنت فأر تجارب مسافر دون كتاب.

حصلت على الختم، وعبرت الحاجز المخيف، وانتظرتُ صديقي الذي راح يضحك بصوتٍ عال مع الضابط، ومن بعيد أراه وهو يحرّك يديه في كلّ الاتجاهات. وفي لحظة قفل عائداً ووجهه مدفون في جواز سفره.

بعد 40 دقيقة عَبَرَ الحاجز. وفي الأربعين دقيقة كنتُ أعدّ نفسي للعودة من حيث أتيت، لا بيروت ولا حلم شمِّ رائحتها وهي تتشمّس على شاطئ البحر. قال صديقي: "كنتُ أضحك مع (أخ الـ...) هذا، وإذا به يرجعني لأنّ زوجتي غسلت جواز سفري، المطحول!".

مع غروب الشمس جلس شابٌّ وشابة بالقرب منّا، وتبادلا القُبل. كانت قُبُل خوف ورهبة وجريمة. بينما ها هي قبلات تقع دون أدنى خوف على بحر بيروت. ومع القبل رميتُ كلّ ما حملته معي عن هذه المدينة، لأكون مثل طفل يخرج من بيته للمرّة الأولى

طلبتُ منه رؤية جواز سفره، لم يكن مغسولاً في الغسالة. قلت له: "هل أنت متأكد من أنّ زوجتك لم تكن تغني (مفيش حاجة كده اهدى حبيبي كده وارجع زي جواز)... أمام طشت مليء بمياه (الفلاحية) المالح".

وبعد التفتيش الثاني والأخير قال صديقي بعد أن آخذ نفساً طويلاً: "إنها الحرية".

وصلنا إلى مطار رفيق الحريري. لم أنتبه للمطار حين دخولنا، لأنني كنتُ أفكّر في الخروج إلى المدينة في أسرع وقت. هناك الكثير لأقوله لبيروت. أحمل رسائل من الطفولة والمراهقة وبداية... هناك بدايات في بيروت لا نهاية لها.

بعد التفتيش وختم الجواز، خرجنا بحثاً عن مضيفنا. لا هاتفانا يعملان ولا الوجوه المبتسمة تتركك تركّز. كنّا نبحث بين الوجوه. تركني صديقي وقال: سأبحث وأعود لك. بقيت وحيداً بين حقائبَ وبوابةٍ تنفتح وتنغلق ليخرج منها الناس ويدخلون بكلّ ثقة.

عاد صديقي ومعه مضيفتنا؛ طويلة القامة وشقراء تخفي عينيها بنظارة شمسية. وهكذا تعرّفت على مشية بيروتية سألاقيها أينما سددتُ نظري. إنهن يسِرن على الهواء. حملتْ بين يديها زهرة "الأوركيد"، وهذا هو الاسم الذي سأطلقه على بيروت: الأوركيد. قالت: "هلا فيكم". ودخلنا المدينة.

لمَ العجلة؟ لأتخلص من حمل المطارات وأترك نفسي لذاكرة المدينة. بعد أن ترجّلنا من سيارة "الجيب" البيضاء، وحين لامستْ أقدامنا الأرضَ لأوّل مرّة، قاصدين مطعماً مشرّفاً على البحر، وبعد أن جلسنا على كراسينا، فهمتُ كلَّ حرفٍ من جملة صديقي حين قال: "إنها الحرية". كان يتبادل القُبُل أمام البحر مع الأوركيد. قد تكون هذه المرّة الأولى التي أرى فيها شخصين يتبادلان القبلَ أمام البحر دون خوف. تبادرت إلى ذهني القبلة التي وقعت في مدينة "أراك" الإيرانية، قبل اسبوع؛ فبعد أن اشتعل محرك سيارة أخي، اضطررنا للتوقف في مدينة "أراك" لتصليحها، وأخذتُ عائلتي وعائلتُه إلى أقرب حديقة.

كنت أتردّد بين السيارة المعطلة وبين الحديقة. ومع غروب الشمس جلس شابٌّ وشابة بالقرب منّا، وتبادلا القُبل. كانت قُبُل خوف ورهبة وجريمة. بينما ها هي قبلات تقع دون أدنى خوف على بحر بيروت. ومع القبل رميتُ كلّ ما حملته معي عن هذه المدينة، لأكون مثل طفل يخرج من بيته للمرّة الأولى. يندهش من أبسط سمكة سردين توضع أمامه.

لن أتعجل معكِ أيتها المدينة؛ لذلك حملتُ زهرة الأوركيد التي أوصلتْها الأوركيدة البيروتية، وعدتُ بها إلى مدينتي التي كانت تغلي، لأكتب عن العودة مع الأركيد.

من مدينة صيدا حصلنا على سيارة "بينز" متهالكة، إذا انفتحت زجاجةُ نافذتها فلن تصعد ثانية، مما سبب في صفعات هوائية للأوركيد. وذهبنا مباشرة إلى المطار. في المطار طلبوا تمرير الزهرة من جهاز الكشف. وبعد أن أعلنوا عن تسليم التذاكر، سلّمنا حقائبنا وحملتُ الأوركيد.

وصلنا إلى طهران. وها نحن نواجه التفتيش. ساعدتُ امرأة في حمل حقائبها، فطلبت مني أن تحمل عني الأوركيد. كانت مصرّة بشكل عجيب. فقلت لها قد يؤخرونك إذا حملتها بسبب الإجراءات. فقالت لن يوقف أحدٌ مثل هذا الجمال

هناك وجهتا نظر تلقتْهما الزهرة؛ الفتيات يطلبن الحديث معها. اقترب مني شابّ وقال: "هل ترى تلك الفتاة تريد أن تأخذ منكَ الأوركيد؟" قلت: "طيب"، وذهبتُ إليها، فقالت: "شو حلوة، ممكن آخذها!". قلتُ لها: "جاءت من سيدني ثمّ إلى بيروت. ورحلتنا ستكون إلى طهران. ثمّ ستسقر في الأهواز". قالت صاحبتها المتجهّمة التي كانت تتابعنا وظهرها إلينا: "هذه الزهرة سافرت أكثر منك". أكملت الفتاةُ الجميلة بائعة السيجار: "كنتُ أريد الحصول عليها، لكنها... تصل بالسلامة". واتجهنا إلى التفتيش الثاني، وعادت الأوركيدة إلى التعذيب عبر مرورها في الجهاز الكاشف. لكننا انتهينا وعبرنا. فجأة ظهر شاب مرح جداً يرتدي ثياباً عسكرية، وقال: "شو ها الزهرة الحلوة!". فقلت له: "لو تعرف ما قاسته، تكاد تموت من كثرة مرورها عبر جهاز الكشف". وهنا قال: "تعال معي سوف نعيد لها ولك الحياة!".

تذكّرت كل الوثائقيات التي تتطرّق إلى النباتات المغروس فيها المخدّرات. هل سأُعلّق في بيروت مع الأوركيدة الخطرة؟ هل نسوا بها شيئاً مريباً؟ قد تكون زهرة يستخرج منها مخدّر.

كنتُ أجيب على أسئلة الضابط الشابّ وهو يأخذ التفاصيل من جواز سفري وعن اسم الزهرة ومكان إقامتي واتّجاهي وتفتيش جديد أكثر دقّة. أوشكتُ على الانهيار والاعتراف بأني مستعدّ لتركها معه. ولكنه قال: "انتهينا. تفضل." وتفضلتُ إلى أقرب مقهى لتدخين سيجارة وفنجان قهوة سيكلّفنا 16 دولاراً دفعتُها وأنا سعيد. واكتشفنا أنا وصديقي خطأنا إذ ذهبنا إلى البوّابة رقم 1 بينما كان علينا الاتّجاه إلى بوابة 2، وعاد التفتيش مرّة أخرى والتحقيق. وانتهت بـ"تفضلوا".

لم يعد بيني وبين الطيارة سوى خطوات، وإذا بالطيار يقول لي: "لا يمكنك ركوب الطيارة مع هذه الزهرة، سوف يدخلونها في الحجز لأنها قد تصيب البلاد كلّها بوَباء وتقتل النسل والحرث. أنا أحذّرك لأنهم سيوقفونك في طهران. ولكن إذا كنتَ تريد المغامرة، ضعها في كيس كبير". لم أعد أشعر بأني أحمل زهرة، بل شفيرة أساسية لغزو المغول. وبحثنا عن كيسٍ كبير لا نجده بين الأكياس. وجدناه أخيراً وعُدنا متأخّرين للطائرة التي حلّقت مساءً.

وصلنا إلى طهران. وها نحن نواجه التفتيش. ساعدتُ امرأة في حمل حقائبها، فطلبت مني أن تحمل عني الأوركيد. كانت مصرّة بشكل عجيب. فقلت لها قد يؤخرونك إذا حملتها بسبب الإجراءات. فقالت لن يوقف أحدٌ مثل هذا الجمال.

فصلتنا الحشود عن بعض، ووجدتُها تنتظرني عند الباب، حاملة زهرة الأوركيد وهي تبتسم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard