شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"لا أستطيع أن أكتب عن دمشق"... قصة ناشطي السلام الأمريكيين غيب وتيريزا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 21 أغسطس 201904:45 م

تم إعداد هذه المادة بمشاركة جمانة يوسف ضمن شباب22 "You22"، برنامج زمالة رصيف22 الذي ترعاه D-Jil، بالاعتماد على منحة مشتركة بتمويل من الاتحاد الأوروبّي، تشرف على تنفيذها CFI.

في الطرف الآخر من العالم وأمام شاشة اللابتوب جلست "تيريزا كوباساك" بجدائلها الرمادية وزوجها "غيب هوك" بلحيته الطويلة، في غرفةٍ حملت جدرانها الروحَ الدمشقية، بصورٍ للجامع الأموي من الداخل والخارج، ورسومٍ لهاجر ومريم العذراء، حصلا عليها من معرض للفنون في المركز الثقافي الإسباني بدمشق، يحكيان لنا رحلتهما الطويلة والتي امتدت لأكثر من عقدين من الزمن، انطلاقاً من الولايات المتحدة للعراق ثم سوريا مروراً باسطنبول، ثم العودة إلى نقطة البداية في منزلهما الصغير.

غيب وتيريزا هما ناشطا سلام، ومهنياً، عملا في حقلي التدريس والنشر. وهما مؤسسا "مشروع الطالب العراقي Iraqi Students Project" عام 2007، وهو مشروع غير ربحي، هدفه تأمين منح في جامعات أمريكية لطلاب عراقيين مقيمين في سوريا، بعد الدمار الشامل  الذي لحق ببلادهم نتيجة الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة على العراق، وانتقل المشروع بعد ذلك لدعم طلابٍ سوريين بهدف إرسالهم لجامعاتٍ كندية، كخطوة لتحقيق أحلامهم المتبقية من الحرب.

مواجهة الحرب الأمريكية بتقديم منح دراسية

"لا أحد كان يستمع لما يجري في العراق والجنود الأمريكيين الذين كانوا يعزّزون تواجدهم هناك"، هكذا قال غيب وهو يخبرنا أن معرفتهما بما يدور في المنطقة تعود إلى عام 1990، وبداية حرب الكويت والعراق، و"ضلوع الولايات المتحدة في تدمير البنية التحتية للعراق من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها"، وفق تعبيره.

في تلك الفترة، ذهب غيب وتيريزا إلى العراق أربع مرات لزيارة المدارس وتبادل الكتب التي كانت تُحضرها تيريزا –التي تعمل كمعلّمة- من نيويورك، مع المدرّسين هناك.

في زيارتهما الأخيرة زارا مدرسة "الجليل الابتدائية" في بغداد، وخلال جولتهما هناك تساءلت امرأة "إذا احتلّت دولتكما العراق من أين سنحضر الماء للأطفال؟"، ثم سألت معلمة أخرى "هل ستحتلنا دولتكم؟". كانت تلك تجربة مؤثرة جداً كما وصفتها تيريزا، وأضافت: "عدم قدرتنا على التحدّث باللغة العربية ووجود مترجم شكّل حاجزاً بيننا وبين الناس".

بعد الغزو الأمريكي للعراق والدمار الكبير الذي حلَّ به، فكّر الزوجان بتعلّم العربية ليتمكّنا من التواصل مع العراقيين وتقديم المساعدة لهم، ووجدا أن المكان الأفضل لذلك مع سهولة اللهجة والحياة هو سوريا، فكان قرار الانتقال للحياة في دمشق عام 2005. تقول تيريزا: "استقلت من عملي وغيب كان متقاعداً، وذهبنا إلى دمشق معتمدين على بعض مدخراتنا وعلى رواتبنا التقاعدية، ولم تكن لدينا دراية عما كنا نفعله تحديداً أو حتى عما سنفعله في الأيام القادمة".

بدأت الرحلة بشكلٍ أساسي بالبحث عن مدرّسين يعلمونهما اللغة العربية، وخلال تلك الرحلة عرفا بأن التحدي الأساسي أمام قدرتهما على دعم الطلاب العراقيين يكمن في افتقاد معظمهم لمهارات اللغة الإنكليزية. "حينها اتضحت الفكرة لدينا، فلو تمكّنا من جمع خمسة عشر طالباً يتقنون الإنكليزية بشكلٍ متوسط إلى ممتاز، وراغبين بإكمال دراستهم في الخارج بشكلٍ جدي، مع عدم قدرتهم على تحمل الأعباء المادية المرافقة، سيكون ذلك مشروعنا، وسنسعى لمساعدتهم في الحصول على منحٍ دراسية في الولايات المتحدة"، أوضح المتحّدثان.


صداقة الشاي والمنشورات

توجّه غيب وتيريزا إلى مدنٍ وبلداتٍ كثيرة، مثل دوما وجديدة عرطوز وجرمانا بريف دمشق، كي يتشاركا مع اللاجئين العراقيين أفكارهم ويشعرا بأنهما جزء من العائلات التي يتحدّثان إليها، "في أغلب الحالات كنا نجد أمهات فقط لأن الآباء كانوا إما متوفين أو يعملون في العراق لتأمين المعيشة". 

هنا ظهرت مشكلة أولى تمثّلت في عدم ثقة الناس، فأول سؤال واجههما كان "كيف أثق بكما؟ لقد دمّرت حكومتكما وطني والآن تخبرانني بأنكما ستعطيانني منحةً دراسية؟" لكن الإجابة كانت حاضرة، رغم الأسف لسماع السؤال: "إننا نمثّل شخصنا وليس حكومتنا، نحن أشخاص نهتم بالناس كما تمليه علينا إنسانيتنا".

وتؤكد تيريزا بأن إقناع معظم العائلات لم يكن صعباً، وتشير إلى مواجهتهما الحالات الصعبة بما أطلقت عليه "استراتيجية الشاي"، حيث يدعوان الأهل إلى شقتهما لشرب الشاي، ويحاولان شرح أهمية تواجد الابن/ة في المشروع، ومدى الاستثمار المستقبلي الذي سيعنيه ذلك. "ومع خلفيتنا الثقافية الجيدة عن العراق كنا قادرَين على مناقشة هذا الأمر في شوارع سوريا ومقاهيها، فبدأ الناس بالإيمان بمشروعنا الذي أصبح له طابع مميز"، تقول تيريزا.

بذلك انطلق المشروع عام 2007، وانتشرت فكرته عن طريق وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، والتي ساهمت من خلال متطوعيها بإخبار العائلات العراقية عنه، وبتصميم منشوراتٍ ساعد الطلاب بتعليقها في الأماكن التي يقصدها العراقيون للحصول على المساعدات الشهرية، إضافةً للمركز الأمريكي للغة في دمشق. هنا بدأ المشروع بالانتشار أكثر فأكثر.


آلية المشروع

ساعد المركز الأمريكي للغة في اختبار مستويات الطلاب قبل الانضمام للبرنامج عن طريق امتحانٍ بثماني درجات، واختيار من يحصلون على أكثر من أربع درجات ليتبعوا دروس تقويةٍ قبل الحصول على المنحة، فهدف المشروع حسب وصف تيريزا لم يكن تعليم اللغة الإنكليزية وإنما توفير التعليم العالي للطلاب. ويضيف غيب: "مستوى اللغة المرتفع كان ضرورياً فالطلاب المستهدفون سيتعاملون بها طوال حياتهم".

بذلك خضع الطلاب المختارون لسنةٍ تمهيدية قبل السفر، والتي تضمّنت دروساً في شقة غيب وتيريزا بدمشق، للتحضير لاختبار "توفل"، وأظهروا فيها التزاماً عالياً رغم قطع معظمهم مسافات طويلة.


إضافة لذلك، أقام الزوجان كل سبت جلسة "فيلم وطعام" لعرض أفلامٍ عن طبيعة الحياة والمجتمع الأمريكي، وكل جمعة أنشطة لتبادل ثقافة الكتب والشعر وتعزيز مهارات التحدّث والتقديم والقراءة النقدية والمهارات الاجتماعية. لا ينسى الزوجان في تلك الفترة يوم ذهبا لحضور عرضٍ موسيقي عراقي في دار الأوبرا بدمشق برفقة الطلاب وأمهاتهم، وهو يوم يتحدثان عنه حتى الآن بكل سعادة.

بعد التعليم بدأت مرحلة البحث عن المنح الجامعية، معتمتدين على أن الكثير من الجامعات الأمريكية تؤمن بتوفير التعليم للجميع وتثّمن تنوّع الطلاب، وهي التي توجّه إليها غيب وتيريزا بالقول: "نستطيع مساعدتكم في تحقيق ذلك، فلدينا طلاب عراقيون حصلوا على علامات مرتفعة في اختبار التوفل، ولديهم شغف للتعليم، كما يريدون العودة بعد إكمال تعليمهم للشرق الأوسط لإيجاد حل للدمار الذي حل ببلادهم".

وحتى عام 2012، تمكّن المشروع من إرسال ستين شاباً وشابة عراقيين إلى خمس وثلاثين كلية وجامعة مختلفة في الولايات المتحدة.

شاركا في مظاهرات في مدن الولايات المتحدة ضد غزو العراق، وبعد الحرب، قررا الانتقال للعيش في سوريا، وتعلّم اللغة العربية، ومن هنا ولدت فكرة مشروعهما: تأمين منح دراسية لطلاب العراق وسوريا في جامعات أمريكا وكندا... هنا قصة ناشطي السلام غيب وتيريزا

سؤال صعب في شوارع بغداد، دفع ناشطي السلام غيب وتيريزا للانتقال من نيويورك إلى دمشق، وهكذا بدأت قصتهما مع عشرات الطلاب العراقيين والسوريين

مغادرة سوريا، والعمل في تركيا

في صيف 2012 قرّر الزوجان مغادرة سوريا وإيقاف التعامل مع الطلاب العراقيين هناك، حيث كانت الأمور تؤول للأسوأ بسبب الحرب، ولم يكن بالطبع قراراً سهلاً كما يقولان، بعد أن عاشا سنوات من الصداقة مع أشخاص رائعين ومتعاونين، في مكانٍ توافرت فيه الخدمات الصحية للجميع والطعام الشهي والصحي، وكل ما يمكن أن يحتاجاه.

ويتذكر غيب وتيريزا آخر يوم لهما في سوريا بكل وضوح: "كان يوم جمعة في شهر رمضان. استقلّينا سيارة أجرة نحو الحدود السورية واستغرقت إجراءات خروجنا وقتاً طويلاً، لكننا فجأة وجدنا أنفسنا خارج البلاد بعد سبع سنوات من الحياة فيها". ولم يتوقّف الزوجان حتى اليوم عن الاشتياق لسوريا وزيارة كل المناطق فيها، والاحتفال هناك بعد ميلاد تيريزا كل ربيع.

في العام 2015 انتقلا إلى اسطنبول مع لجوء ملايين السوريين لتركيا، وقرّرا إطلاق المشروع مرة أخرى لكن مع الشباب السوريين هذه المرة، وانطلاقاً من نادٍ اجتماعي يدعى "الدار" يلتقي فيه سوريون وعرب بهدف التشارك بأنشطةٍ ثقافيةٍ واجتماعية، ما وفّر مكاناً مثالياً لنشر فكرة المشروع الذي تعدّل اسمه ليصبح "Iraqi and Syrian Student Project".

هنا، تمثّل التحدي الأكبر في تأمين المزيد من المنح التعليمية، خاصة بعد وصول الرئيس دونالد ترامب للبيت الأبيض، وتعقّد إجراءات دخول السوريين للولايات المتحدة، إضافةً لتراجع وتيرة المنح المالية عاماً بعد آخر.

"توجّهنا نحو كندا وتمكّنا من إرسال عددٍ محدودٍ من الطلاب السوريين إليها، سواء من تركيا أو من داخل سوريا أيضاً، بالتعاون مع مركز لتعليم اللغات بدمشق، وذلك رغم صعوبة الحصول على تأشيرات الدخول الكندية. وللأسف تدفعنا اليوم التحديات المتزايدة لإيقاف قبول الطلاب بشكلٍ نهائي في المشروع"، أشار غيب، ولم يتمكّن من إخفاء حزنه هو وتيريزا من عدم قدرتهما على دعم المزيد من الطلاب الراغبين بإكمال تعليمهم، وإنقاذ بلادهم من براثن الحرب والدمار.

"تعلّمنا منهما الكثير"

فاطمة صعب (29 عاماً) هي إحدى المستفيدات من مشروع ISP، تحدثت إلى رصيف22، عن هذه التجربة التي غيّرت في حياتها الكثير.

بعد ثلاث سنوات من مغادرتها العراق عام 2006، تعرّفت فاطمة إلى غيب وتيريزا عن طريق أحد أصدقائها، وحصلت على منحة للدراسة في الولايات المتحدة بعد نجاحها بتجاوز امتحان اللغة، الأمر الذي تصفه بالتجربة الرائعة التي أعطتها الأمل بالمستقبل بعد أن فقدته بشكلٍ كلي.

ولم يقتصر تأثير غيب وتيريزا على حياة فاطمة هنا، فهي اليوم تعيش في كندا، وتساعد اللاجئين السوريين والعراقيين هناك بما يخصّ التعليم. "تعلّمت منهما الكثير وأشعر بالفرح عندما أساعد الآخرين ليكملوا تعليمهم".

السورية هديل حداد وصفت لرصيف22، تجربتها مع المشروع التعليمي بأنها "التجربة الغنية التي غيّرت مسار حياتها". حصلت هديل التي كانت مقيمةً في دمشق حتى العام الماضي على منحةٍ لدراسة الماجستير بمجال التعليم القيادي في كندا، وتنتظر إتمام دراستها نهاية العام الحالي، وتخطط للعودة إلى سوريا.

لم تلتقِ هديل بغيب وتيريزا بعد وجهاً لوجه، لكنها تصفهما بأنهما من الأشخاص الذين يغيرون حياة الآخرين للأفضل. "عندما أتحدث عنهما أشعر بأنني محظوظة بالتعرّف إليهما. حين نتواصل أشعر بأنهما يعرفان كل التفاصيل عن دمشق، الأمر الذي شجّعني على الوصول لعلاقةٍ قوية معهما".

"عندما أصبحت سوريا وطننا"

عام 2016 نشر غيب وتيريزا كتاباً حمل عنوان Never Can I Write of Damascus وهي الترجمة الإنكليزية لافتتاحية قصد الشاعر السوري نزار قباني "لا أستطيع أن أكتب عن دمشق..."، ودفعهما لذلك الحب الكبير الذي حملاه لسوريا، والتي تحوّلت في لحظة من اللحظات إلى وطن بالنسبة لهما، كما تشير عبارة على الغلاف.

يتحدّث الكتاب بشكلٍ غني عن الحياة في سوريا، ويحتوي على صور وخرائط مرسومة باليد، والكثير من التفاصيل الدقيقة عن الحياة اليومية لغيب وتيريزا خلال السنوات التي عاشاها في هذا البلد بشكلٍ فريد وحميم.

لم يكن من الغريب أن نسألهما عن هدف نشر الكتاب، والجواب كان واضحاً لديهما: هو موجّه للأمريكيين كي يفهموا سوريا وكيف يعيش السوريين، خاصة أولئك الذي لا يعرفون الشرق الأوسط ولا يعرفون كمّ الاختلاف بالتقاليد والفن والتاريخ والهندسة المعمارية. "كتابنا سيساعدهم على أن يعرفوا سوريا كما عرفناها نحن"، أردفت تيريزا.

"لا أستطيع أن أكتب عن دمشق، دون أن يعرش الياسمين على أصابعي. ولا أستطيع أن أنطق اسمها، دون أن يكتظ فمي بعصير المشمش والرمان والتوت والسفرجل،" هذا ما كتبه نزار قباني عن مدينته، وهذا ما  عبر عن رؤية غيب وتيريزا، وحبهما العميق لدمشق، فكان عنوان كتابتها. 

لا بد من العودة يوماً

كان رجاء غيب وتيريزا أن يتمكن طلاب مشروعهما من العودة إلى العراق أو إلى سوريا، ولكن ذلك لم يتحقق مع استمرار الأوضاع غير المستقرّة في كلا البلدين، وتوجه الطلاب بطبيعة الحال لبناء حياة جديدة خارج المنطقة. "للأسف لم يعد سوى ثلاثة أو أربعة إلى العراق بعد تخرّجهم"، يقول غيب.

إلا أن تيريزا تعتقد بأن العودة لا بد ستحصل يوماً ما. "نحن عدنا إلى بلدنا، ونؤمن بأن الطلاب أيضاً سيرجعون إلى بلدانهم، فهم الخطوة القادمة التي ستساهم في بناء حياة الشعبين العراقي والسوري رغم ما حلّ بالبلدين من دمارٍ وظروف حياتية صعبة للغاية".


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard