شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الصلاة هي خسارة الوزن والمعبد هو

الصلاة هي خسارة الوزن والمعبد هو "الجيم": تقديس الجسد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 27 يونيو 201903:33 م

بعد انكسار اليسار قُبيل الألفية الثالثة، ثمّ هجمات 11 أيلول سنة 2001، تبدو مُجتمعات اليوم ميّالةً إلى التديّن، توّاقةً نحو القيم المُحافظة. بيد أنه ليس لمظاهر التديّن الطارئة تلك عمق إيماني وجداني بقدر ما هي هويّاتيّة سياسيّة، سواءً أكان الشعارُ القيمَ المسيحيّة في الغرب، الشريعةَ الإسلاميّة في الشرق، الخصوصيّة الحضاريّة لشعب الهان في الصين أم نقاء الهندوسيّة في الهند.

عبادة الذات وحدها هي العقيدة الفعليّة، العابرة والجامعة للمجتمعات الرأسماليّة المعولمة، أما المعبد فهو "الجيم"؛ الصالة الرياضيّة.

ستون مليوناً، هو عدد المنتسبين إلى الصالات الرياضيّة في الولايات المتحدة مع حلول 2017، أي ضعف العدد لعام 2000. في 2018 شهد سوق الأندية الصحيّة الأوروبيّة نموّاً بقدر 3,2%، مُقترناً بزيادة الإقبال بنسبة 40%. في دولة الإمارات بلغت قيمة سوق المراكز الرياضيّة 380 مليون دولار أميركي، أما حول العالم فقد جنى القطاع أرباحاً إجماليّةً وصلت حتى 86 بليون دولار.

تبدو مُجتمعات اليوم ميّالةً إلى التديّن، توّاقةً نحو القيم المُحافظة، إلا أنّ عبادة الذات وحدها هي العقيدة الفعليّة، العابرة والجامعة للمجتمعات الرأسماليّة المعولمة، أما المعبد فهو "الجيم"؛ الصالة الرياضيّة.

لن تغفل له عين طوال الليل، ذاك الذي فاته موعد الذهاب إلى النادي وأداء تدريبات اليوم الصباحيّة، سوف يقتله العذاب وسيتخيّل جسمه وقد تكدّست فيه أرطالٌ من الدهن، لن يجرؤ على تناول طعام العشاء: عن تقديس الجسد في مجتمعات اليوم

فيما عبّرت البدانة وقلّة الحركة فيما مضى عن رُقيّ العيش، والنحولة والنشاط البدني المُضني عن الفاقة والبؤس، صار لأغنياء اليوم هيئات هياكل عظميّة، وباتوا يتصبّبون عرقاً كلَّ يوم على ظهور دراجاتهم الهوائيّة

ومثل كلِّ العقائد، تدخل عادات الأكل على عبادة الجسد من باب صيانته والعناية به، ولتلك الطقوس أيضاً سوق عالميّة عملاقة بمليارات الدولارات، بفروعٍ من زراعةٍ بيولوجيّة تدّعي عدم اللعب بالجينات أو استعمال المُبيدات، ثمَّ عديد صنوف المُكمّلات الغذائيّة، من مساحيق البروتين الحيواني الصافي اللازم لنموِّ العضلات، والمُحفّزات من أليافٍ وأحماضٍ وأنزيماتٍ وفيتامينات، أقراصٍ ومشروبات.

معابد الذات جدرانها من مرايا تعكس الأجساد، عليها تُناجي النفس صورتها الماديّة، في كلِّ شهقةٍ وزفرةٍ، وعند كلِّ رفعة وزنٍ أو شدِّ حبلٍ أو جرِّ آخر، العيون مُثبتة على العيون والأنفاس تتابع الأنفاس، في عزلةٍ فرديّةٍ وتمركزٍ تامٍّ حول الأنا خلال التمارين الرياضيّة، تصطفُّ أرتال الدرّاجات الثابتة، يمتطيها مجموع الأعضاء من رجالٍ ونساء، يتحرّكون في رتابةٍ وانسجام كأنهم في صلاةٍ جماعيّة.

لن تغفل له عين طوال الليل، ذاك الذي فاته موعد الذهاب إلى النادي وأداء تدريبات اليوم الصباحيّة، سوف يقتله العذاب وسيتخيّل جسمه وقد تكدّست فيه أرطالٌ من الدهن، لن يجرؤ على تناول طعام العشاء، وسيبقى لزاماً عليه أن يختار بين الأرق جوعاً وتأنيباً، أو الدفع بنفسه خارج البيت في قيظ الصيف أو صقيع الشتاء، لكي يستدرك ما فاته ويريّح نفسه وضميره من عذاب التأنيب.

ولمن حلَّ عليه المساء، أصبح هناك صالات رياضيّة تفتح أبوابها ليل نهار، لا توفّر لأحد أيّ ذريعةٍ بعد اليوم للتقاعس والتقصير بواجبه تُجاه جسده، حتى وإن كانت أبواب النادي موصدة، فالبدائل يسيرة ومُتاحة، مادامت النفس تقيّة والنيّة صافية، فالشوارع والحدائق العامّة منذ ساعات الفجر الباكر تعجّ بالمهرولين، حتى أن الحدائق باتت تحوي على هياكل لمُمارسة تمارين القوّة البدنيّة.

عبادة الذات ليست جديدةً، هي من جهة حصيلة الفكر الوجودي الغربي الذي بلغ أوجه مع انتهاء الحرب العالميّة الثانيّة، ومن جهةٍ أخرى، هي المظهر السلوكي الذي رافق صعود اقتصاد السوق وتأسيس دول الرخاء والرفاه، حين تقدّمت قيمة الفرد على كلِّ ماعداه، وفي كثيرٍ من المُجتمعات سُلّعت بشكلٍ كامل، وصارت بذلك خاضعةً لمبدأ اللذة، فأصبح تحصيل المُتعة هو التعبير عن قيمة وحريّة الإنسان.

ميّزت الهيدونيّة، أو "اللذّويّة"، المرحلة الأولى من تطوّر عبادة الذات في فترة الستينيات وصولاً إلى تسعينيات القرن الماضي، تجلّت في مسلك استهلاك الجسد وشيوع أصناف الغلوِّ والإسراف، حيث انتشر التدخين مثلاً على نطاقٍ واسع ثمَّ تعاطي الكحول والمخدّرات والإقبال على الأطعمة الدسمة، الحلوة والمالحة، وآلت مطاعم الوجبات السريعة والحانات إلى أمكنةٍ للقاء وحواضن للتجمّعات العامة.

اليوم، مع زيادة الوعي الصحّي إزاء عواقب التدخين والتغذية الرديئة، التي أثقلت بالنتيجة كاهل القطاع الصحّي، ثم بوادر الأزمة الاقتصاديّة التي هزّت المصارف الغربيّة عام 2008، والإحساس العام، خصوصاً في الغرب، بوزر الهوّة بين نصف الكرة الأرضيّة الشمالي المترف والغني، ونصفها الجنوبي المُثقل بالفاقة والفقر، دخلت النزعة الفرديّة بموجب تلك المتغيّرات مرحلة ما بعد الهيدونيّة.

وفيما تبدو عتبة مابعد الهيدونيّة ظاهراً، كأنها تجاوزٌ للفردية وإلغاءٌ لها، حتى اصطلح عليها البعض التباساً "ما بعد الذات"، إلا أنها في العمق، لا تعدو كونها إعادة تموضعٍ إيديولوجي لقيم النرجسيّة الفرديّة ذاتها التي طبعت مبادئ رأسماليّة ما بعد الحربين، فمقابل ما ساد من استهلاكٍ للجسد غلوّاً في تحصيل المتعة، انقلب إلى مبدأ "صيانة الجسد" عن طريق الحياة السليمة والرياضة.

في هذا المناخ الإيديولوجي، أخذت تظهر ممارسات أقرب في ظاهرها إلى التقشّف الديني، وإن ظلَّ باطنها مجالاً حيوياً لسوقٍ جديدة مُدرّةٍ وصاعدة، صارت المينيماليّة والشظفيّة نمطاً في الحياة وأسلوباً في الملبس والمأكل، باتت الناس تشرب الماء عوضاً عن الكوكاكولا، والقهوة عوضاً عن الجعة والنبيذ، وأصبحت تتناول الحساء والعصائر والهرائس والخضار النيئة والخبز الأسمر والجاف.

المُتعبّد ينشد في معبوده الكمال

وكما في كلِّ العبادات، يبقى المُتعبّد ينشد في معبوده الكمال، عُمِّمت من قبل وسائل الإعلام والإعلان مقاييس مثاليّة للجسد، إما انتقائيّة لاتمثيليّة أو في بعض الأحيان خياليّة وغير واقعيّة، يجري التلاعب بها رقمياً عن طريق تطبيقات الكومبيوتر لتحسين الصورة، ثابتة أم متحركة، كلّ هذا جعل الناس تتمرّن على مدار الساعة وتصبر على الألم والجوع دونما إدراك لهيئة الجسم الذي يعبدونه.

حتى انقلبت المعايير في المجتمات الغربيّة المُعاصرة، ففيما عبّرت البدانة وقلّة الحركة فيما مضى عن رُقيّ العيش، والنحولة والنشاط البدني المُضني عن الفاقة والبؤس، صار لأغنياء اليوم هيئات هياكل عظميّة، وباتوا يتصبّبون عرقاً كلَّ يوم على ظهور دراجاتهم الهوائيّة، أما الفقراء فازدادوا سُمنةً لعدم قدرتهم على شراء الأطعمة الصحيّة، ناهيك عن دفع نفقات الأندية الرياضيّة.

ما من شكّ أن ممارسة الرياضة والاهتمام بالتغذية السليمة تسهم في جودة الصحّة وتعزّز من فرص العمر المديد، وأن من شأن تلك المسالك أن تُحسّن من نوع الحياة، وإن لقلّةٍ قليلةٍ قادرةٍ ومقتدرة، المشكلة أنها لا تغلق في وجه الشركات الرأسماليّة باب إثراءٍ واستغلال إلا لتفتح آخر، ولا تزيد من إنسانيّة الإنسان، بل من نرجسيّته وأنانيّته وهوسه بظاهر شكله وجسده دون روحه وعقله.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard