شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
ديكتاتورية الشعوب المقهورة.. لماذا نطالب بحرياتنا ونقمعها عند الآخرين؟

ديكتاتورية الشعوب المقهورة.. لماذا نطالب بحرياتنا ونقمعها عند الآخرين؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 25 مايو 201905:23 م

كعادة كلّ رمضان، لابد أن تلتقي بمنشور هنا أو هناك، يتحدّث عن الجهر بالإفطار (ليس هذا موضوع المقال فقط البداية)، المنشور إمّا يدعو لمناهضة هذه الظاهرة، أو على النقيض، يدعو لترك مجال الحرية متاحاً، بما أن الأكل والشرب علناً قد يكون من السخرية منعهم.

وبما أن تلك المنشورات بنوعيها، متشابهة للغاية، فقد كنت أراعي قراءة مقدّمة كلِّ منشورٍ فقط، لربما يحمل ما يميّزه عن البقية، وهذا ما كان بالفعل حينما صادفت منشوراً لأحدهم وقد قرّر البوح علناً بالسبب الحقيقي الذي جعله يرغب قديماً بالزجِّ بالمفطرين جَهْرَاً في السجون، الأمر الذي تغيّر في عقله منذ فترةٍ بسيطة، وشعرت حينها أنني قد امتلكت تفسيراً آخر لشيء يعبث بأفكاري منذ عبثت بها الثورة أوّلاً، ألا وهو سؤال: "لماذا لا نُناسب الديمقراطيّة حاليّاً، ونحن الشعوب التي ثارت من أجلها حاليّاً؟".. وهذا موضوع المقال.

ما الفرق بين مُفطري الشركة ومُفطري الشارع؟

الرجل يحكي أنه لطالما شعر بالضيق الشديد والكراهية تجاه من سوّلت لهم أنفسهم تناول وجبةٍ أو تجرّع رشفةٍ من مشروبٍ ما في نهار رمضان، وحينما عمل في شركةٍ يغلب عليها طابع التحرّر كونها شركة أجنبيّة في مصر، انقسم شعوره وفقاً لفترات اليوم، فهو لا يشعر بأيّ ضيقٍ أثناء العمل على الرغم من وجود زملاء له غير صائمين، وحين ينتهي الدوام وينطلق إلى الشوارع قاصداً منزله، يجد نفسه وقد عاد إليه شعور الضيق، ولكن هذه المرّة تجاه المارّة.. لماذا؟ وما الفرق بين مُفطري الشركة ومُفطري الشارع؟

يوضّح صديقنا أنه لم يجد إلا تفسير واحداً لهذا الانقسام الذي حدث لمشاعر الغضب والرغبة في فرض سطوته على الآخرين وهو (الجماعة)، إذ يرى أنه كلّما كانت الجماعة المحيطة به تدعمه في تلك المشاعر السلطويّة، فإن هذا إنذار بوجوب الغضب، وربما التدخّل أيضاً، ضدّ الأفراد غير المشابهين للجماعة، وهذا ما حدث في الشوارع المليئة بمن سيتطوّع للدفاع عنه، كونه يتحدث عن عقيدتهم ورغباتهم، والعكس رأى نفسه فرداً داخل جماعة الشركة، لذا لم يشعر بأنه يمتلك حقّاً سلطةً هناك، فمنع مشاعر الغضب والسطوة من مرافقته إلى حيث يعمل، الأمر شبيه بالرجل الأخضر الذي يتحوّل لمدمّرٍ في مواقف ما، ولكنه يكبح هذا التحوّل في مواقف أخرى، والمواقف هنا في قصّتنا تعني المحيط والجماعة.

ما دخل هذا بالديمقراطيّة؟

أعتقد أنها القصّة ذاتها تتكرّر في كلِّ وجهة نظر، فإقدام أحدهم على عتابٍ قد يصل إلى الاعتداء على فتاةٍ ترتدي فستاناً قصيراً محكومٌ بموقع هذا الحدث، في مصر مثلاً لن تستطيع اتخاذ أيّ موقفٍ إذا رأيت هذا المشهد في مجتمعات الزمالك والمعادي وغيرها من الأماكن التي يُطلق عليها تجمّعاتٍ راقية، لأنك ببساطة كالمغترب الذي لا تنطبق معاييره على معايير المحيطين به، وهكذا فأيّ تصرّفٍ عنيفٍ لن يقابله الشارعُ بالترحيب، على العكس تماماً فسوف تلقى عقاباً مناسباً، أما في مناطق أخرى أكثر ازدحاماً، مثل منطقة فيصل وشبرا، فسوف تجد ضالّتك في فرض سطوتك على الفتاة وفستانها، بل وقد يصل الأمر إلى أن يصفك المارّة بالرجل المحترم الذي يرفض العري.. إلخ.

كلّ العيب أن يظلّ هذا التفكير مستمرّاً عند شعوبٍ ذاقت طعم الديكتاتوريّة ثمّ تلذّذت بلحظات ديمقراطيّةٍ عابرةٍ سريعة.

ما الذي تغيّر هنا؟ الجماعة، فلن يستطيع نفس الشخص الاحتماء خلف جماعته الشبيهة به إذا ما أصبح هو فرداً مختلفاً في جماعةٍ مغايرة، وكما اعتدنا سماع مقولة (لو البلد مش عاجباك سيبها وامشي) فسوف تتكرّر الجملة مع تغييرٍ بسيطٍ إذا ما تعلّق الأمر بالدين، فتصبح (البلد شعبها مسلم لو مش عاجباك سيبها وامشي)، ولن يلاحظ قائل الجملة الثانية أنه شخصيّاً قيلت له الجملة الأولى في كلِّ مرّةٍ أراد فيها المطالبة بالديمقراطيّة.

قِسْ على هذا الفستان القصير جميع بديهيات الحرية التي يعرفها العالم، المعتقد والرأي والملبس والجنس.. إلخ، والتي يُصرُّ البعض على اعتبار من يخالف (عادات المجتمع) مجرماً يجب عقابه، ليس لأنه قد سرق قوتهم أو دمّر نظام صحّتهم أو هدّد أمنهم، ولكن بتهمةٍ اجتماعيّةٍ ساذجة وهي (استفزاز مشاعرهم) والذي يتمّ تفسيره بالاستعراض ضدّ جماعتهم.

المثير للحيرة أن تكون الجماعة الرافضة للديمقراطيّة هي نفسها الجماعة التي خرجت تُعارك الأنظمة للظفر بها، وبدلاً من نزع الديكتاتوريّة ستجد أن رداء الشر ما زال يجول البلاد، وإنما الآن يعتلي جسد الشعوب المقهورة سابقاً، لنصبح أمام إحدى إنتاجات مزرعة الحيوان لجورج أورويل، حيث تقوم الحيوانات بثورةٍ ضدّ الإنسان الديكتاتور، وبعد ذلك تضع الحيوانات بنفسها قيوداً جديدةً تشرّع لبعضها قتل وحبس وإيذاء البعض الآخر، ولكن هذه المرّة لا حيوانات، وإنما شعوب ثائرة ترعى قيودها بمسمّى جديد وهو (ديكتاتوريّة الشعوب المقهورة).

في مناطق أخرى أكثر ازدحاماً، مثل فيصل وشبرا، فسوف تجد ضالّتك في فرض سطوتك على الفتاة وفستانها، بل وقد يصل الأمر إلى أن يصفك المارّة بالرجل المحترم الذي يرفض العري!

لن يستطيع نفس الشخص الاحتماء خلف جماعته الشبيهة به إذا ما أصبح هو فرداً مختلفاً في جماعةٍ مغايرة، وكما اعتدنا سماع مقولة (لو البلد مش عاجباك سيبها وامشي) فسوف تتكرّر الجملة مع تغييرٍ بسيطٍ في كل سياق مختلف.

لا أعفي الأنظمة الساقطة أو المستمرّة بعد إعادة تلوينها من مقدار السطوة والتطفّل اللذين صاحبا الشعوب الثائرة، ولا أقول بأننا أخطأنا بإعلاء أصواتنا بحثاً عن الديمقراطيّة، بالعكس، فالأنظمة نفسها قامت بتغذية هذه المشاعر السلطويّة لدى الشعوب طوال الوقت.

القصّة ليست حكراً على مصر، فحتى في الجزائر منذ أيام قليلة شاهدت مقطع فيديو يُظهر التعدّي على طلابٍ بتهمة الإفطار جهراً داخل جامعتهم، ومن قبل في تونس، شاهدت ذلك أيضاً، وكأن يد الديكتاتوريّة لم تكن مع الأنظمة الراحلة وإنما يد الديكتاتوريّة مع الجماعة.

بالطبع لا أعفي الأنظمة الساقطة أو المستمرّة بعد إعادة تلوينها من مقدار السطوة والتطفّل اللذين صاحبا الشعوب الثائرة، ولا أقول بأننا أخطأنا بإعلاء أصواتنا بحثاً عن الديمقراطيّة، بالعكس، فالأنظمة نفسها قامت بتغذية هذه المشاعر السلطويّة لدى الشعوب طوال الوقت، والتفت حصاد المتطرّفين لتلقي بهم في السجون ووضعت يدها في أيدي جماعات التطرّف لتستمر الدائرة المفرغة تعمل بكفاءة، فإن هربت من ذاك ستقع تحت أقدام هؤلاء وهكذا دواليك، ولكن كلّ العيب أن يظلّ هذا التفكير مستمرّاً عند شعوبٍ ذاقت طعم الديكتاتوريّة ثمّ تلذّذت بلحظات ديمقراطيّةٍ عابرةٍ سريعة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard