شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

" يا لها من امرأة!": تحية كاريوكا بعيون إدوارد سعيد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 20 مايو 201905:20 ص

القاهرة 1950- كازينو بديعة مصابني الشهير

يتلوى الجسد الفاتن تحت غلالة زرقاء شفافة تتهدّل فوق البكيني بدلال، ينتثر عليها التتر اللامع المتموج وتتحرك بين طياتها القلائد الفضية والذهبية التي تتراقص مع كل انحناءة في تموج إيقاعي بديع. أما الابتسامة التي افتر عنها ثغرها، ابتسامة العينين والجسد في آن معاً، فقد دمغت المشهد برمّته بما لا يمكن نسيانه.

لم تبارح تلك الذكرى المثيرة مخيّلة الصبي ذي الأربعة عشر عاماً، وسيتذكرها بوضوح صادم ويأتي على ذكرها في مناسبات عدة.

أما الصبي فهو المفكر الفلسطيني الأبرز إدوارد سعيد، وأما ذاك الجسد الساحر فهو يعود إلى "أروع راقصة شرقية في كل الأزمان" كما وصفها إدوارد نفسه: تحية كاريوكا.

في إحدى أماسي ربيع عام 1950 يرافق الشاب المراهق أصدقاء له إلى كازينو "بديعة مصابني" في منطقة الجيزة حيث تؤدي وصلتها هناك. كانت حينها في عقدها الثالث من العمر تتربع كآلهة متوّجة بوصفها الراقصة الأكثر روعة بين بنات جيلها. لكن في تلك الساعة من الزمن كانت حالة حلمية ملهمة للعبقري في ريعان صباه، الجالس في المقاعد الخلفية الأكثر بعداً عنها والأكثر قرباً لها في آنٍ معاً، وفي تلك الليلة كانت دون دراية منها قد دخلت كتاب مذكراته"خارج المكان" الذي سيكتبه بعد ذلك بعقود بوصفها أحد الذين تركوا أثراً بالغاً في مراهقته.

"لأول مرة في حياتي اهتززت إثارة لمشهد إيروسي بامتياز لم أشاهد مثيلا له من قبل. إنها تحية كاريوكا ، أعظم راقصات زمانها..تتلوى ثم تدور حول محورها باتزان محكم إلى حد الكمال.

كان ردفاها وساقاها ونهداها أبلغ بوحاً من كل ما حلمت به أو تخيلته في نثري الاستنمائي الفظ، وتنضح بشهوة فردوسية. لمحت على وجه تحية بسمة تنم عن لذة متفلتة من كل قيد، يعبر فمها المفتر قليلا عن نعيم الشهوة، يلطف منها مزيج من السخرية والتمنع يصلان حد الاحتشام

رقصت تحية ثلاثة أرباع الساعة مؤدية تأليفاً طويلا ومتواصلا يتكون في معظمه من الدوران البطيء وإيماءات اليدين، فيما الموسيقى تعلو وتهبط بنغماتها المتجانسة، فتكتسب معناها لا من تكرارات المطرب أو من تفاهة كلمات أغنياته، وإنما من أداء تحية النوراني والشهواني إلى حد مستبعد التصديق".

يغادر إدوارد سعيد مصر إلى الولايات المتحدة لإكمال دراسته في عمر مبكر بعد طرده من مدرسته في القاهرة لسوء سلوكه! يتخرج لاحقاً بتفوق أكاديمي، من ثم ينال بعدها بكالوريوس في الفنون ودكتوراه في الفلسفة، ليصبح لاحقاً أستاذاً للغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا. وهكذا تتحول القاهرة بصبغتها الكولنيالية آنذاك التي كانت مستقرّه منذ ولادته وحتى المراهقة إلى محطة سريعة لإجازات متباعدة من ثم ينقطع عنها نهائياً إلى منفاه القسري لأسباب قانونية خارجة عن إرادته مدة خمسة عشر عاماً بين عامي 1960 و1975.

يتلوى الجسد الفاتن تحت غلالة زرقاء شفافة تتهدّل فوق البكيني بدلال، لم تبارح تلك الذكرى المثيرة مخيّلة إدوارد سعيد الصبي ذي الأربعة عشر عاماً، وسيتذكرها بوضوح صادم ويأتي على ذكرها في مناسبات عدة.

"أتساءل أحياناً أي حياة ستكون لها بعـد موتها!": تحية كاريوكا بعيون إدوارد سعيد 

لكن المنفي في غربته صاحب كتاب "الاستشراق" ظلّ يستحضر ليالي القاهرة بذكرياته عن المغرية السمراء التي بقيت تداعب خياله ليس بوصفها راقصة بالغة الإثارة فحسب أو ذكرى ملتهبة تعود لأيام الشباب بل كونها امرأة مصرية استثنائية، امرأة من الوطن في شرقه البعيد تنتمي إلى عالم "النساء المتحررات اللواتي تجاوزن الحدود الاجتماعية الضيقة". فتلك المولودة في بدايات القرن العشرين عاصرت كل من مرّ على مصر بدءاً من الملك فاروق مروراً بعبد الناصر والسادات ومبارك وأرسلها كل منهم إلى السجن مرة على الأقل بسبب نشاطها السياسي وكان هذا محط افتتان العديد من الكتاب والمثقفين بتلك التي يصح القول بها بأنها " جدعة" و" أخت رجال".

لكن هنالك جانباً آخر كان محط افتتان الراحل إدوارد سعيد فكتب فيها مقالاً بعنوان:Homage To A Belly-Dancer (تحية إلى راقصة شرقية)1990 والآخر بعد رحيلها عام 1999 حاول من خلال ما كتبه أن يفيها حقها كراقصة وكرمز ثقافي أيضاً فهيّ (مجهولة) خارج العالم العربي رغم شهرتها الكبيرة داخله، على عكس أم كلثوم التي قارنها بها فتلك الأخيرة (عالمية) وموسيقاها تتردد أصداؤها في كل مكان داخل وخارج عالمنا العربي رغم أنه لا يتآلف مع أغانيها الطويلة، التي قليلاً ما تطربه وفي قوله تصريح واضح عن عدم استساغة أغانيها:" لا أزال أشعر بأنني لم استطع اكتشاف سرّ قوتها، وربما كنت الوحيد بين العرب الذي يشعـر بذلك." على عكس "تحية" التي تنتمي إلى فئة يُطلق عليها اسم: "العوالم" بمعنى المحظية وهي المرأة المثقفة التي تجمع فنون الغواية والتي يرغب رجال الطبقات العليا في رفقتها فهي شخصية طاغية وفطنة، موهوبة ولبقة، تتمتع بإثارة مهيبة عصية على النيل، بعيداً عن الإغراء الرخيص والتخلع المبتذل.

ابتكرت تحية أسلوباً خاصاً لها في الرقص الشرقي، فلا "نطنطة" ولا هزهزة"، كما أنها لم تكن كمعظم راقصات جيلها التي كانت تصفهم ساخرةً: " دي رقاصة!! دي ممغوصة في بطنها!". حتى إدوارد نفسه لم يملك إلّا أن يقارنها مع جيل كامل من الراقصات رأى الغالبية العظمى منهن في مرتبة غير بعيدة عن مرتبة العاهرات. وحدها "تحية" تفرّدت ولم تكن يوماً تنتمي إلى تلك الفئة التي يسهل تعريفها بفتيات البار.

ولعل مشاهدتها في عرض مباشر على المسرح أمر لم يحظ به إلّا قلّة، ولا يضاهيه تسجيل مرئي أو مشاهدة فلم تتخلّله رقصة لها. إن التجربة المعاشة والتي كانت من نصيب إدوارد المرهف أوّلاً، والكاتب الناقد ثانياً منحت تلك الساعة من الزمن صفة الأبدية.

"ما أضبط ثباتها إذ تقف هناك وعلى وجهها بسمة كلّية الهدوء! لم تنط من غير طائل، لم ترقّص نهديها بابتذال، لم تدفع بحوضها نحو الأمام دفعاً فظّاً، ولم تتمايل بوركيها عبثاً. لقد كان ثمة تروٍّ مهيب حتى أثناء أكثر المقاطع سرعة."

وفي وصف إدوارد لرقص تحية إضاءة على أُسس مدرسة وضعت هي دعاماتها، إنها مدرسة الرقص الهارموني الشرقي والتي تقابلها في الضفّة المعاكسة مدرسة سامية جمال الإيقاعية فتلك الأخيرة كانت تذرع المسرح جيئة وذهاباً كخيل جامح في رقص صاخب مثير غني بالحركات. أما تحية فُعرف عنها أنها ترقص بكامل جسدها في متر واحد بهدوء كلاسيكي مهيب دون حركات فضائحية، أو إيحاءات مبتذلة بل انسيابية متموجة تتآلف من الموسيقى لتشعر بأن تلك الراقصة التي تعتلي المسرح قريبة وتكاد تكون ملموسة لكنها هناك بعيدة ونائية ولا تُطال.

قبضاي بوزن مـئتين وعشرين رطلاً!

لدى عودة إدوارد من منفاه عام 1975 كانت كاريوكا قد اعتزلت الرقص كلّياً مع استمرارها في مزاولة التمثيل. وفي الليلة الثانية لوجوده في القاهرة يسارع لحضور إحدى مسرحياتها التي كانت تعرض آنذاك (يحيا الوفد). لقد أراد استعادة وجه المحبوبة، الواثقة الجامحة حتى في أدائها التمثيلي ..لكن يا لفرط ذهوله وخيبته! لقد حلّ مكان "توحة" الراقصة المثيرة "قبضاي يزن مئتين وعشرين رطلاً" تؤدي دوراً بالغ الرداءة لقروية فظّة تكرّ بالشتائم، وتلقي النكات السخيفة بأسلوب صاخب هزلي شديد الابتذال.

حينها كانت كاريوكا تقضي آخر عهدها بالزواج مع الكاتب المسرحي فائق حلاوة زوجها الرابع عشر والأخير –أنذل أزواجها حسب وصفها- من سلبها شقّتها بما فيها من ممتلكات وصور وأفلام وزجّها في أعمال لا تشبه تاريخها، أعمال فيها من التملق والابتذال الشيء الكثير.

حين التقى المعجب بأيقونته وجهاً لوجه

قبل رحيلها بسنوات أعانت صديقة مشتركة وهيّ المخرجة الوثائقية "نبيهة لطفي" إدوارد في تدبير لقاء يجمعه بكاريوكا خلال زيارة له إلى القاهرة لإلقاء محاضرة في الجامعة الأميركية. ووفقاً للروائي العراقي علي بدر فقد كان لدى إدوارد سعيد فكرة مشروع وثائقي يستعرض من خلاله محطّات حياته و أطوار مشروعه السياسي والثقافي وقد أراد أن تكون البداية من القاهرة، تحديداً من تلك اللحظة التي شاهد فيها تحية ترقص في كازينو بديعة قبل عقود لِما كان لتلك اللحظة من بالغ الأثر في تكوين شخصيته. وجاء اليوم الموعود..وياللعجب!

لقد أستقبلته سيدة مسنّة جليلة برداء إسلامي محتشم. ضاعت ملامح الوجه حادة التكوين تحت بدانة أخفت عظام الخد البارزة لكن الابتسامة كانت هناك لتتحدث عن جمال صاحبتها..جمال عتيق وأصيل. إنّها"العالمة" المتقاعدة، الحجّة كاريوكا.

أدخلتهم مرحّبة إلى شقّتها المتواضعة. بدت أقلّ حدة وألطف مما كانت عليه في مسرحيتها المنفّرة الأخيرة، دارت القهوة، والأحاديث التي رُدمت خلالها ثغرات مبهمة في حياة "توحة" وقد أشبع المعجب الشغوف فضوله فيما يخص مواقفها ونشاطها السياسي والثقافي، علاقاتها الاجتماعية وزيجاتها المتعددة. وقد اعترف لها صراحة بأنه وجدها على الرغم من كبر سنها وتغيّر شكلها أجمل بكثير مما كان قد تصورها قبل أن يراها. يتنهد في نهاية المقابلة: " يا لها من امرأة!" .

وداعاً يا تحيـة!

في أيلول من العام 1999 ترحل بدوية محمد علي النيداني المعروفة بـتحية كاريوكا وقد طوت معها رحلة ابتدأت مطلع القرن الفائت وانتهت بنهايته

لم تتحقق رغبة إدوارد في صنع فلم يكون لتحية مكان فيه وقد كان فيما سبق قد شق رحلة بحث في أرشيف السينما المركزي عن مواد مصورة أو مكتوبة عنها، لكن الغريب أنه لا شيء موثّق قد وُجد، وأضف إلى أنها هي نفسها لم تكن تملك قبل موتها تذكاراً واحداً عن حياتها الحافلة، صورة، تسجيل، أو حتى بدلة رقص تحمل رائحة ماض مثير وحافل. وهذا ما توقف عنده إدوارد بشيء من الحزن والأسى. وكأن حياتها وموتها صورة عن حياتنا جميعاً في عالمنا العربي "إن حياة تحية وموتها يرمزان إلى ذلك الجزء الكبير من حياتنا في تلك البقعة من العالم الذي ينقضي من دون تسجيل أو حفظ".

بعد رحيلها بأسابيع ودعها على طريقته بمقالة تحمل بلاغة عذبة وشغف واضح وقد كانت آخر ما كتبه عن تحية، يذيّل مقاله في النهاية بسؤال أزلي:

"أتساءل أحيانًا أي حياة ستكون لها بعـد موتها! "


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard