شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
انتبه, المصور

انتبه, المصور "فاقد للبصر"!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 15 مايو 201904:46 م

يقف وراء الكاميرا، يتلمّسها بأنامله، متّخذا وضع القيام بالتصوير، طالباً منك أن تضحك. "الصورة تطلع حلوة!"؛ هو في الحقيقة لا يرى إن كنت مبتسماً أم ضاحكاً أو مهموماً، إلا أنه يؤدّي عمله، كما تعلمه، فبصره المفقود لم يفقده بصيرته.

طارق ، صاحب الـ48 عاماً، والحاصل على تمهيدي الماجستير من كلية دار العلوم جامعة القاهرة، هو واحد من هؤلاء الذين لم يعقهم فقدان البصر عن ممارسة شغف التصوير، ومن ثَمَّ راح يحفظ للغير لحظاتهم السعيدة، بل ويحتفظ لنفسه أيضاً ببعضها، وإن كان دائماً يحتاج إلى الغير ليجيبه عن السؤال الأهم: "الصورة حلوة؟".الصورة تعدّ جزءًا من شخصيتك التي يطَّلع عليها البعض، سواء بنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، أم بإرفاقها مع أوراق العمل، لذلك نحرص على أن تقدّمنا بالشكل المطلوب، وذلك يتطلب اختيار من يصورنا، ومن ثَمّ نفاضل بين المصورين وبعضهم، لنختار أحسنهم، فماذا إذا كان أحدهم فاقد البصر؟

يحلم بتصوير الكعبة

البداية كانت قبل 38 عاما، حيث كان صبياً في العاشرة من عمره، إلا أن ولادته فاقداً للبصر جعلت الجميع يعاملونه برفق، ولا يردُّون له سؤالاً. ذلك حتى يوم اجتمعت فيه الأسرة لتلقط بعض الصور التذكارية بالكاميرا الخاصة بالعائلة، والتي كانت حسب قوله "نادرة الوجود في ذلك الزمان، فمن كان يملك كاميرا في بيته حينها، كان كمن يمتلك طائرة في بيته الآن"، وعندما لم ير الصبيُّ وجوداً لنفسه في الصورة، سرعان ما وجد لنفسه مكاناً آخر، لا تكون الصورة دونه وإن لم يظهر بها، فالصبيّ فاقد البصر اختار أن يكون "المصوّر".

فاقد البصر لديّ يعرف جيداً معنى الألوان الساخنة، ومعنى الإضاءة الجانبية، وفي كلّ ذلك يعتمد على حسّه فقط.

"قلت لهم أنا عايز أمسك الكاميرا وأصوّر، ولم يرفضوا طلبي؛ كنوع من الرفق بالفتى الصغير" يقول "طارق"، موضّحاً أن ردودهم على صورته التي التقطها كانت إيجابية تماماً. لكنه أيضاً يؤكد أن إطراءهم ذلك ربما كان نوعاً من الشفقة، مضيفاً: "وإلا لِمَ احتاجوا أن يلتقطوا غيرها؟!".

ظلت أصابع طارق تداعب الكاميرا بين الحين والآخر، لكنه لا يعتبر نفسه مصوراً، فما كان يحدث كان شغفاً طفولياً تجاه معشوقته التي تصدر فلاشها، وكأنها تلوح له مرحبة بوجوده في مرحٍ كأنه ما زال ابن العاشرة. وبقي على حاله ذلك حتى وَجَد الإعلانَ عن ورشة لتعليم المكفوفين التصوير، والذي كان بمنزلة الغيث له، فسرعان ما التحق بها ليصبح ما أراد: "الآن أنا مصور محترف؛ أستطيع أن ألتقط الصور بشكل يضاهي تصاوير المبصرين، فالورشة تعلّمْنا بها كيف تتعامل مع فتحة العدسة وتوزيع الضوء، وأيضا المسافة بين من يصوّر وما يريد تصويره؛ كذلك كيف أتعامل في حالة ما إذا كان أمامي شخص أو مجموعة".

يؤكد طارق والذي يعمل أيضاً عازف "كيبورد"، أن سعادته لا تكون بالتقاطه للصورة فقط، ولكن سعادته الكبرى تكمن في الشعور الذي يصله من الآخرين فور رؤيتهم للصورة: "سعادةُ الناس ودهشتُهم تجعلانني سعيداً جدّاً".

الورشة التي نظّمها المصور خالد فريد، والتي كان "طارق سعيد" أحدَ أفرادها، تعمل على تعليمهم تصوير الأشخاص وأيضاً تصوير المنتجات إلا أن طارقاً يحكي أنه كثيراً ما تمنّى أن يصوّر المخلوقات المتحركة، كأن يصور لاعب كرة قدم: "أراقب خطواته وسرعته بالكرة، وألتقط الصورة حسب إحساسي؛ بالتأكيد سأتمكّن من ذلك يوماً ما"، ولكنه يشير إلى أن المصور خالد فريد أكّد له أن ذلك صعب حتى على المبصرين.

يؤكد طارق أنه كثيراً ما تمنى أن يعمل في الصحافة، إلا أن ذلك كان صعباً عليه، مضيفاً: "تخيّلت كثيراً أن أذهب إلى تصوير حادثة"، ولكنه استنكر ضاحكاً: "ولكنني سرعان ما أتراجع عن الفكرة، فهل سينتظر القاتل حتى أصوّره؟!". أما عن حلمه بأن يكون له "استوديو" ملكَه، يوضح طارق أنه يتمنى ذلك، ولكن هناك الكثير من العوائق التي تقابل تلك الفكرة، منها نظرة المجتمع له: "فمن يتقبّل فكرة أن يذهب إلى مصوّر فاقد البصر؟ فعندما كنت أقدّم على تمهيدي الماجستير، قال لي دكتور جامعيّ كبير: "كفاية عليك كدا أنت كفيف!".

 إنهم يريدون بناء جسر بينهم وبين من يصورونه في محاولة منهم لاكتشاف شخصيته، وغالباً ما كان ذلك سرّ خروج الصورة بشكلها هذا.

من الصور التي تعلّق طارق بها كثيراً هي صورة للكعبة الشريفة معلّقة أعلى جهاز التليفزيون الموجود بصالة منزلهم القديم، فيقسم أنه رغم عدم رؤيته لها، إلا أنه كان كثيراً ما يقف أمامها، ويقسم أن ذلك كان يشعره براحة غريبة، وأن نظرته الطويلة إلى تلك الصورة كانت تدخل البهجة إلى قلبه، متابعاً أن حلمه الكبير أن يعلّق في بيته صورة للكعبة، ولكنها تكون هذه المرّة من تصويره هو.

صاحب مبادرة تعليم التصوير لفاقدي البصر: نسبق الغرب على مستوى التكنيك

لم تكن مبادرة "قدّ التحدي" والتي أطلقها المصوّر خالد فريد لتعليم فاقدي البصر التصويرَ، هي الأولى من نوعها، فحسب قوله قد سبقتْها الكثير من المحاولات، إلا أن تلك المحاولات لم تزد عن كونها "سبوبة" كما أنها لم تأخذ شكلاً احترافياً متكاملاً، فخرجت مشوهة الملامح مبتورة الكف، عاجزة عن التقاط صورة حقيقية، حيث كان هدف هؤلاء الأول هو الحصول على تمويل خارجي، بحجة نبل الفكرة، لذلك لم يكتب لجميعهم النجاح، عكس "فريد" الذي يوضّح أن هدف مبادرته هو إخراج مصوّر صحفي حقيقي قادر على إتمام مهمته بكفاءة.

"كل ما عليك أن تأخذه معك إلى المصدر الذي تريد تصويره، وتتركه ليتحدّث مع هدفه ليختار له المكان المناسب والزاوية الأنسب للصورة، ومن ثّمَّ يلتقط أفضل الصور وأَصدقَها"، يقول خالد فريد، قبل أن يحكي عن تجربتهم مع الفنان محمد صبحي، والذي ذهب إلى ندوته في معرض الكتاب السابق مجموعةٌ من فاقدي البصر الدارسين في دورة خالد فريد، والتقطوا له مجموعة من الصور، والتي فرح بها "صبحي" كثيراً، مؤكداً أنها من أفضل الصور التي أُخذت له.

في ورشته، التي ينظّمها بنادي الطيران الرياضي في مصر الجديدة، يعتمد خالد فريد على أسس علمية، حيث يكون الدارس على دراية بعدسات الكاميرا والفروق بينها، وكذلك كيفية تعامله مع الإضاءة، فالفكرة بالنسبة لفريد حسبما يصفها: "أن يكون لديه قدرة على تحدي نفسه، وتحدي الآخر أيضا".

بحكم عمله مديراً لتحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط، استطاع خالد فريد أن يضع تجربته تحت الاختبار المباشر، وذلك بإشراك أعضاء ورشته أو أبنائه كما يسميهم، في عمله الصحفي، أي قيامهم بمهمة المصور الصحفي في بعض اللقاءات الصحفية، وعرض نتاج تجربته على الكثير من القامات الفنية الكبيرة، أكد جميعهم نجاح تجربته.

ومقارنة بتجارب دخول فاقدي البصر عالمَ التصوير في الدول الأجنبية يؤكد "فريد" أنه خلال الـــ 10 سنوات الماضية اطّلع على التجارب المختلفة في دول العالم تقريبا، واتضح له من خلال متابعته تقدم تلك الدول تكنولوجياً في ذلك المجال، إلا أن التجربة المصرية أكدت تفوّق العنصر البشري، أي تقدّم تجربته على مستوى التكنيك ونتائج تلك التجارب الأخرى.

يقول طارق إن نظرته الطويلة إلى صورة الكعبة طالما كانت تدخل البهجةَ إلى قلبه، متابعاً أن حلمه الكبير أن يعلّق في بيته صورة للكعبة، وتكون هذه المرّة من تصويره هو.

أيضا يؤكد "فريد" أنه الآن بصدد العمل على طباعة تلك الصور لفاقدي البصر، ليتحسّسها ويقيمها بنفسه، أي بطريقة برايل، ومن ثمّ سيعمل في الشهور المقبلة على تنظيم معرض تصوير من فاقدي البصر ولهم، بمعنى أن يكون زوّار المعرض من فاقدي البصر، والذين ستأخذ لهم الصور عن طريق المصوّرين فاقدي البصر أيضاً، ومن ثمّ طباعتها بطريقة برايل ليتسنى لهؤلاء الزوار رؤية الصور أيضا.

يؤكد "فريد" أن عبقرية أعضاء ورشته تكمن في اعتمادهم على الكاميرا فقط كأداة للتصوير؛ كاميرا عادية مثلها مثل الكاميرا التي يستخدمها المبصر العادي، عكس الدول الأخرى التي يعتمد فيها المصور على وسائل تكنولوجية: "هناك أطلقوا منذ أشهر (سمارت جلاسس) وهي تخبرك بالأشياء التي تعترض طريقك، وهنا لا يوجد تحدٍّ حقيقي، ومن هذا المنطلق رفضت أن يشارك ضعاف البصر في الورشة، فهم مبصرون بشكلٍ ما".

وتابع: "لكن فاقد البصر لديّ يعرف جيداً معنى الألوان الساخنة، ومعنى الإضاءة الجانبية، وفي كلّ ذلك لا يعتمد على مبصر في شيء، فهو يعتمد على حسّه فقط"، موضّحاً أنه قريباً سيعلمهم "التشريح" أيضا، بمعنى التعامل مع الشخص بأبعاده وحالاته، فكيف يتعامل مع الأنف المعقوفة، وعظمة الخد العالية، والزاوية المناسبة لفرقة شعر الرأس للفتيات، وكلّ ذلك بأن يضع يده على وجهك ليخبرك بزاوية التصوير المناسبة".

مي سعيد: صورتهم لي هي الأفضل في حياتي

الكاتبة مي سعيد، كانت ممن لهم تجارب مع المصورين فاقدي البصر، حتى أنها اعتمدت صورتهم لها، صورةً رسمية. وتحكي "سعيد" لـ"رصيف 22" بأنها عندما ذهبت إلى معرض الكتاب للتصوير ضمن مبادرة تصوير، وجدتهم موجودين هناك مصادفة، وقد بدأ خيط التعارف، والذي ترى أنه يميّزهم عن غيرهم": " في العادي لا يكون هناك حوار بيني وبين المصور، ولكني شعرت أنهم يريدون بناء جسر بينهم وبين من يصورونه في محاولة منهم لاكتشاف شخصيته والتعرف عليه أكثر، وغالباً ما كان ذلك سرّ خروج الصورة بشكلها هذا".

كذلك تؤكّد مي سعيد أن الصورة التي التقطها لها أعضاء ورشة "قد التحدي" تعدّ أفضل صورها على الإطلاق، رغم إشارتها إلى أنها دائماً ما تصوّر بشكل احترافي طوال الوقت، بحكم عملها في مجال الإعلام.

أما عن رأيها في احتمالية نجاح فكرة أن يفتتح أحدهم أستوديو خاص بها، ومدى تقبل الناس له، تقول إنها تساند دائماً من يسعى لفعل ما يحبّ، وما يجعله سعيداً دون استثناء، ما دام أنه لن يؤثر سلباً على أحد، مضيفة: "وأظن أنهم مؤهلون لذلك، فهم مصوّرون محترفون".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard