شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
المزارعات في تونس يُطعمن المجتمع ويَمُتن تحت عجلات

المزارعات في تونس يُطعمن المجتمع ويَمُتن تحت عجلات "شاحنات الموت"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 2 مايو 201906:16 م

تحول وشاحهن البسيط المطرز بالورود إلى رايات تُرفع على أسطح المساكن وشعارٍ يُلوح به المحتجون الغاضبون في تونس من التمييز الجهوي والتمييز ضد المرأة العاملة في الزراعة. قصة مقتل 12 عامل في الزراعة معظمهم من النساء من بينهن طفلة السبت الماضي تخيّم على تونس، فالضحايا لقوا مصرعهم في حادث مرور بعد أن نُقلوا محشورين في شاحنة خفيفة كانت تقلّهم نحو الحقول. الحادث ليس الأول من نوعه، فلطالما تعرضت المرأة العاملة في الزراعة في تونس إلى حوادث مماثلة قاتلة على مر العقود، سواء على الطريق أثناء نقلها أو بسبب لغم في منطقة تسلكها، أو جراء استنشاق مبيد حشرات سبب لها السرطان.

ظروف نقل النساء العاملات في الزراعة مجرد "شجرة تحجب الغابة" إنها حلقة واحدة في سلسلة حلقات المخاطر التي تهدد حياة المرأة الريفية وتنتهك حقوقها منذ عقود. ظروف النقل تلك لا تستجيب إلى أبسط قواعد السلامة ولا تحترم أدنى حقوق الإنسان أو الكرامة البشرية وفق ما قاله جميع محدثينا، تُحشر النسوة بالعشرات ( بين 20 و 25 أو أكثر من 30 مثلما حدث السبت الماضي) على ظهر شاحنة خفيفة متهالكة تُقاد في مسالك وعرة، تنقلب أحياناً بسبب تجاوز الحمولة المسموحة، وقد تصطدم بشاحنة أخرى مثلما حدث في كارثة السبت الماضي.

الأحد الماضي رُفعت أغطية رؤوس الفقيدات في جنائزهن في دُوّار البلاهدية في السبالة القرية التابعة لولاية سيدي بوزيد التي كانت قبل 8 سنوات مهد الثورة التونسية. رجال عصبوا رؤوسهم بتلك الأوشحة التي تسمى في اللهجة الريفية “العْصابة” وهم ينتحبون وكان من بينهم أطفال الفقيدات. ذلك الدُوّار (يعني القرية الصغيرة) فُرّغ من نسائه تقريباً نتيجة ذلك الحادث المروع، ففي لحظة واحدة فقدت عدة أسر أمهاتها ومعيلها كذلك: المرأة العاملة في الزراعة.

تمثل نساء الأرياف في تونس حوالي 36 بالمئة من عدد التونسيات، وتقول وزارة التشغيل والتكوين المهني إن نصف مليون امرأة يعملن في الزراعة فيما يقدر خبراء بأن العدد يفوق هذا الرقم بكثير. تمارس العاملات مختلف الأنشطة الزراعية كالحرث والزرع ومداواة الأشجار وتقديم الأعلاف للماشية وجني الثمار وتمتد ساعات عملهن إلى 12 ساعة أياً كانت الظروف المناخية صحواً أو مطراً، ولا يتمتعن في الغالب بيوم راحة ويتقاضين 12 ديناراً في اليوم (4 دولارات) أي أقل من أجر الرجل رغم أن القانون التونسي الذي يضبط الأجر الأدنى الفلاحي يؤكد أن أجر الجنسين هو واحد ولا فرق بين رجل ومرأة.

المرأة تقود مسيرة الزراعة.. وتموت بسببها

في الخطاب السياسي كما التنموي، يقال إن المرأة الريفية في مناطق عدة في تونس "تقود مسيرة الزراعة في البلاد"، لكن الواقع أن الزراعة القائمة على النساء تلتهم أعمارهن وصحتهن وتستغل عرقهن. فاليد العاملة الفلاحية النسائية أرخص بكثير من اليد العاملة الرجالية، وعادة ما تعوض النساء النقص الحاد للرجال في المزارع، حيث يعزف الرجل عن خدمة الأرض إن لم يكن يملكها ويفضل البطالة وإرسال نساء الأسرة للعمل في المزارع على أن يعمل هو في حرث أرض غيره.

وعادة ما تتنقل النساء العاملات في المزارع على متن شاحنة يملكها “سمسار” ويسمى في اللهجة الدارجة “ القشّار”. يتجمعن في ساعات الفجر الأولى عند نقطة تجمّع تبعد أميالاً عن بيوتهن المتواضعة .

أصدرت تونس عام 2016 بروتوكولاً لمنع النقل العشوائي للعاملات في الزراعة لكن هذا القانون لا يطبق.

تقول رجاء الدهماني المسؤولة بجمعية "النساء الديمقراطيات" لرصيف22 إن “شاحانات الموت” قتلت عشرات النساء العاملات في الزراعة منذ سنوات، محملةً مسؤولية كارثة منطقة السبالة للدولة قائلة: “لا توجد إرادة سياسية". وأكدت أن الجمعية خاطبت المسؤولين في الدولة في وزارتي الفلاحة والشغل ورئاسة الحكومة قائلة “نبهانهم إلى الكارثة والمخاطر التي تهدد النساء عند نقلهن على متن شاحنات الموت.. لكن الدولة لم تتحرك" وفق ما صرحت به.

وتضيف رجاء الدهماني: “لا نستطيع تحميل السمسار مالك الشاحنة التي تقل العاملات والتلاميذ كذلك وحده مسؤولية مقتل هذا العدد الكبير من الضحايا” مؤكدةً أن تلك الشاحنات تنقل تلاميذ المناطق الريفية إلى المدارس في الظروف الخطيرة ذاتها التي تُنقل فيها المزارعات.

ولاحظت أن تلك الشاحنات في الأصل غير مخصصة لنقل البشر بل لنقل البضائع، وقالت “صاحب الشاحنة يصب الماء في ظهر الشاحنة لمنع النساء من الجلوس، فينقلهن واقفات وهذا ما يمكنه من حشر أكبر عدد منهن…تخيلي يضع في شاحنته بين 20 و 25 امرأة مرصوصات واقفات..معرضاً حياتهن للخطر”. وأكدت أنه فيما كان رئيس الحكومة يوسف الشاهد يزور منطقة السبالة الأحد الماضي لتقديم التعازي للأسر “كانت شاحنات الموت تتجول مواصلة نقل النساء في الظروف الخطيرة ذاتها التي ماتت فيها النسوة قبل يوم واحد”، في إشارة إلى عدم اكتراث صاحب الأرض والسمسار مالك الشاحنة الذي يتلقى عن كل امرأة 4000 مليم (دولار ونصف) مقابل نقلها. وقالت رجاء إن توفير النقل العمومي حق ومن مسؤولية الدولة.


هي تحرث..هو يقود الجرّار

تطرقت رجاء إلى مسألة تدني أجور العاملات في الزراعة منددة بعدم المساواة في الأجر بين الرجل والمرأة وقالت إن المرأة الريفية تقبل بالعمل بأجر أدنى في ظروف عمل شاقة “لأنها تحت خط الفقر”.

وأكدت أن الدراسة التي قامت بها جمعية النساء الديمقراطيات بينت أن المرأة العاملة في الزراعة تقول بأعمال شاقة من حرث ومداواة الأشجار وجني وتنظيف وتحضير العلف “فيما يقوم الرجل فقط بقيادة الجرار، بقية الأعمال تقوم بها المرأة”.

وأكدت أن العاملات الفلاحيات لا يتمتعن حتى بلباس شغل خاص يحمي أجسادهن من أشعة الشمس والشوك أو أقنعة تحميهن من استنشاق المبيدات وهذا ما يجعلهن مصابات بأمراض مزمنة كأمراض التنفس وآلام الظهر والسكري والقلب إلى جانب سوء التغذية.

وأشارت إلى حرمان هؤلاء النساء من العلاج الاجتماعي مؤكدة أن سبر الآراء الذي قامت به جمعية النساء الدميقراطيات قبل فترة وجيزة خلص إلى أن معظم النساء العاملات في الفلاحة لا يتركن مليماً واحداً من أجورهن الزهيدة لأنفسهن وقالت: “كل همهن تعليم أطفالهن والأمل بتوفير مسكن لهم”.

“شاحانات الموت” قتلت عشرات التونسيات العاملات في الزراعة. مقتل 12 عامل زراعي معظمهم نساء السبت الماضي ليس سوى “الشجرة التي تحجب الغابة”، فسلسلة الانتهاكات كثيرة. هنا، المرأة تُطعم المجتمع وتموت جوعانة أو تحت عجلة شاحنة.
“صاحب الشاحنة يصبّ الماء في ظهر الشاحنة لمنع النساء من الجلوس، فينقلهن واقفاتٍ وهذا ما يمكنه من حشر أكبر عدد منهن…تخيلي يضع في شاحنته بين 20 و 25 امرأة مرصوصات واقفات..معرضاً حياتهن للخطر”..شاحنات الموت تقتل عاملات الزراعة في تونس.

“المرأة العاملة في الزراعة في تونس تُنتج الفروالة، تمسح عنها الأتربة، تضعها في صناديق، تشتهي الفراولة ولا تأكلها”. كيف تعيش المزارعات في تونس؟ كيف يمتن في طريقهن إلى الحقول؟ ماذا يقول الخبراء عن اضطهاد المرأة الريفية؟ هل هذا قدرها أم أن سياسة الدولة هي القاتلة؟

المرأة تنتج الفراولة ولا تأكلها

وبينت الدهماني أن النساء في الزراعة يعشن ظروفاً جد صعبة فيسكنّ في بيوت كالأكواخ بعضها من قش. وأضافت “المرأة هناك تنتج الفروالة، تمسح عنها الأتربة، تضعها في صناديق، تشتهي الفراولة ولا تأكلها”.

وقالت إن جمعية النساء الديمقراطات طالبت الدولة بإدراة النوع الاجتماعي في ميزانية الدولة حتى تأخذ المرأة الريفية حظها من تقسيم الثروات ولاحظت الدور الكبير الذي تقوم به المرأة الريفية في إطعام التونسيين رغم ظروف عملها غير الإنسانية “لو تتوقف المرأة العاملة في الزراعة عن العمل ستجوع تونس ولن يأكل الشعب” تقول محدثتنا.

وأكدت رجاء أن منطقة السبالة في سيدي بوزيد هي فقط أنموذج عمّا تعيشه المرأة الريفية في تونس، مؤكدة أن العاملات في أرياف قريبة من العاصمة مثل منوبة أو مرناق يعشن ظروفاً مماثلة. وطالبت بإيصال مياه الشرب إلى منطقة البلاهدية وبقية المناطق النائية وبتمكين النساء من أراضٍ فلاحية لاستغلالها لحسابهن وباعتماد "ميزانية قائمة على مبدأ المساواة بين الجنسين وبين كل الفئات”. وطالبت رجاء بإلغاء العمل بالمناولة واعتبرته “اتجاراً بالبشر” منددة باستغلال “العمل تحت الحاجة” لاستغلال المرأة مؤكدة أن الأطفال كذلك يعملون في الحقول وهو انتهاك صارخ لحقوق الطفل في تونس وعبث بالقوانين. وطالبت بإنقاذ الجانب الاجتماعي في تونس المهدد حسب قولها، مذكرة بأن ثورة تونس قامت على شعار “الشغل، الحرية، الكرامة الاجتماعية” مطالبةً الدولة بتوفير السكن اللائق للأسر الريفية لأنه مقوم هام من مقومات العيش الكريم.

المرأة مضطهدة في الوسط الريفي

يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي بلعيد أولاد عبدالله في تصريح لرصيف22 إن واقع المرأة الريفية مرهون بالأجر الزهيد والعمل الهش وساعات العمل المضنية والتعرض لمخاطر المبيدات إلى جانب التحرش بالعاملات في الأراضي وعلى الطريق.

وقال: “كل هذه النقاط مؤشرات وأدلة على تعرض المرأة العاملة في الزراعة إلى انتهاكات لحقوق الإنسان”.

ولاحظ أولاد عبد الله أن "واقع المرأة الريفية تغيّر فنجد في الوسط الريفي خريجات تعليم عال، بل هناك قاصرات كذلك يعملن…المرأة مضطهدة في الوسط الريفي لا تعرف حقوقها وهنا يأتي دور المجتمع المدني للإحاطة بهذه الفئة”.

وقال إن 90 ٪ من العاملات في الزراعة هن أجيرات و 4٪ فقط يمتلكن مشروعاً فلاحياً. وأضاف: “كأنّ المرأة مطالبة بإعالة الأسرة فقط بل هي المعيل الوحيد للأسرة..لا تفكر بنفسها”.

وأكد أولاد عبدالله أن المرأة العاملة في الزراعة لا تعرف حقوقها “مشروعها الحياتي هو أطفالها” على حد قوله. وبيّن أن في الفترات الزمنية السابقة كانت المرأة تعمل في الزراعة لتعلم أطفالها، "وهذا نجح لحد ما فحتى بعض المسؤولين يفخرون بأن أمهاتهم عملن لأجل تعليمهم ...لكن هذا لا يبرر استغلال المرأة اليوم”.

وأكد أن عمل المرأة نوعان “مؤجر وغير مؤجر” ويعني بالمؤجر العمل بأجر في الزراعة أما العمل غير المؤجر فهو العمل في البيت ولتجهيز مؤونة الأسرة الموسعة”.

نقص الماء وعلاقته بانتهاك حقوق المرأة الريفية

أما أستاذ علم الاجتماع محمد جويلي فيؤكد في حوار مع رصيف22 أنه منذ انفتاح تونس في سبعينيات القرن الماضي على الاقتصاد الرأسمالي، اعتمدت الدولة على الصناعات التحويلية وأهملت رعاية الزراعة قائلاً : “الأنموذج التنموي أهمل الزراعة فأقصت الدولة هذا القطاع من خدماتها والنتيجة ما نراه اليوم من تجاوزات وانتهاكات”.

وبيّن أن الثقافات الفرعية للمناطق السقوية تتطلب حضوراً يومياً للعمال وهنا يأتي حضور المرأة، فالزراعات السقوية قائمة بالأساس على المرأة لأنها تقبض أجراً زهيداً لا يرضى به الرجل. وأضاف أن “مناطق الوطن القبلي شمال شرقي تونس والوسط وبعض مناطق الشمال الغربي تحضر فيها المرأة العاملة في الزراعة بقوة فزراعة الفراولة والأرض شوكي تقوم بالذات على المرأة..صاحب الأرض يُشغلّها مقابل أجر زهيد”.

وأشار جويلي إلى وجود تقسيم في تونس على أساس جهوي أولاً وعلى أساس النوع الاجتماعي ثانياً ملاحظاً أن العاملة في الزراعة لا تتمتع بتغطية اجتماعية وتعمل لساعات طويلة. أما عن ظروف النقل الخطيرة فقال الجويني إنها “ليست سوى حلقة من الحلقات، النساء يتعرضن لخطر الموت في المزرعة نتيجة تعرضهن للمبيدات…نحن لا ننتبه إلى المخاطر التي تهدد سلامة المزارعات إلا عند حدوث حادث مرور قاتل كالذي أودى بحياة 10 نساء قبل أيام، حينها فقط انتبه المجتمع إلى معاناة المرأة العاملة في الزراعة..إنها الشجرة التي تغطي الغابة”.

وقال جويلي إن ريف تونس محروم من التنمية، ونتيجة فشل تجربة التعاضد (الاشتراكية في ستينيات القرن الماضي) زاد تهميش الريف.

وأكد أن “نقص الماء يؤدي إلى انتشار الزراعات السقوية أي الزراعات التي تتطلب حضور يد عاملة تسقي الزرع وهذا النوع من الزراعة بالذات أكثر حاجة للمرأة العاملة، هذا يقود رأساً إلى استغلالها”. وأكد أن نتيجة عدم تمتع المرأة بالقروض، تبقى عاملة في أرض لا تملكها قائلاً : “المرأة محرومة من استغلال الأرض، العقلية الذكورية وقوة رأس المال تُخضع المرأة لهذا الاستغلال المجحف وهذه الانتهاكات”.

احتجاجات

ونفذت جمعية النساء الديمقراطيات الأربعاء 1 مايو، بمناسبة يوم الشغل العالمي، وقفة احتجاجية أمام وزارة المرأة والأسرة والطفولة طالبت بتحسين ظروف عمل وعيش النساء في المناطق الريفية وبتفعيل بروتوكول سنة 2016 لتحسين ظروف نقل العاملات في الزراعة.

وأصدرت الحكومة التونسية يوم 30 أبريل وبعد كارثة السبالة، أمرًآ ينص على إقرار نظام التغطية الاجتماعية لفائدة بعض العمال في الفلاحة والصيد البحري يشمل الحرفيين والصيادين المستقلين والفلاحين والمربين والنساء جامعات المحّار والعملة والعاملات موسمياً في الفلاحة، لكن المحتجين يقولون إن هذا غير كافٍ.

وندد نواب البرلمان التونسي الثلاثاء بفشل الحكومة في التعامل مع مشاكل العاملين في المجال الفلاحي وبظروف النقل في المناطق الريفية مشيرين إلى فشل السياسات الحكومية بشكل عام وأشاروا إلى الأوضاع المتردية في المناطق الريفية وظروف العمل القاسية التي يعيشها عمال القطاع الفلاحي في تلك المناطق، مطالبين الحكومة بإجراءات فعلية توقف التهميش وتنقذ المناطق المحرومة من التنمية منذ عقود.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard