شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
رحلة مُهاجِر في مونتريال: هل رح يبان المرج بعد ما يذوب الثلج؟

رحلة مُهاجِر في مونتريال: هل رح يبان المرج بعد ما يذوب الثلج؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 9 أبريل 201905:26 م

في أيلول/ سبتمبر 2017 جئتُ إلى مونتريال للمرة الرابعة قادماً من بيروت، أنا حلبي المنشأ والمربى، لاذقاني النسب من جهة الأب، وإدلبي من جهة الأم، لأمضي عاماً جديداً من التنقّل والإنكار.

كان في البال هدف واحد: احتساب وقت. وفي القلب هدف واحد: العودة.

بدأ الوقت بالانقضاء وكأنه ما كان.

تمضي الأيام سيّاناً، والروح معلّقة في الهوّة، ما بين المستقبل المزعوم، والماضي الحاضر أبداً.

فكانت الكتابة، كما يقال، فعل وجود.

24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017

في مونتريال، أرانا نكره طقساً ما وطئت لولاه قدمنا هذه الأرض، مهاجرين ولاجئين. تفقد الأرقام قيمتها بعد العشريّة الثانية تحت الصفر، ومعها كلّ حواسنا. الشمس تُرسل أشعّتها باردةً في الشتاء أيضاً. لا مكان للأناقة أو تجانس الألوان هنا. نلتحف بكل ما ملكت أيماننا، فهنا النقاب من الكفر وليس من الإيمان.

في مونتريال أرى قادمين جدداً يسألون قادمين جدداً آخرين إن كانوا سعداء.

في مونتريال أرى قادمين جدداً يسألون قادمين جدداً آخرين إن كانوا سعداء.

سؤالٌ لا إشارة استفهامٍ له. نبرته تعلو لتشتّت أي تمرّد. ألمحهم يطرحون السؤال ومن خلفه "كلّنا هيك"، هوية بديلة تُبرَز بعد جواب الـ "ماشي الحال" المنتظر. ألمح في عيونهم راحة توسّلوها وقد اطمأنوا أنهم ليسوا وحدهم من يرزح تحت كآبة.

في مونتريال، تحوّلت كنائسٌ لصالات "جيم". لا للترويج "لرياضات روحيّة"، بل لأن الروح هجرت الأبنية حين هجرتها من كانت لها يوماً رعية. عادت لاحقاً تهرول وترفع أثقالاً لا تحمل عبء الخطيئة الأصليّة.

في مونتريال، لا عبث مسموح بفوضى. عبثهم منتظم في جداريات نفخت حياة في جدران رماديّة، استقطبت من جاؤوا بصرخة أو ابتسامة، يصبّون فوضاهم ألواناً تحكي مئة رواية في لوحة. تجذبنا نحن المعتادين على جداريّات الولاء والنعوات ورسائل العشق الفجة.

في مونتريال، أرانا نحتفي بتراثنا على بلاكين المسارح، تراثنا الذي كان قد تعشّق في درابزين بلاكيننا. نقطع بطاقات على الانترنت قبل روزنامة أو أكثر. نستدين ثمنها بالـ credit card. ونمضي في الموعد المرتقب لنقف مترقّبين في طوابير، مثلنا - نحن ورثة التراث - مثل كل من لا يمتّ له بمقام أو جواب.

نطرب ولا نرتوي. نتحسّر. نبحث عن نشوة نعرفها ولا ندركها. وكيف تدركنا هي بعد قارّتين أو أكثر.

في كانون الثاني/ يناير التالي: بيروت لبضعة أشهر

تغيرت الهنا والهناك ما بين حلب وبيروت ومونتريال. ما عادت الهويّة واضحة كما اعتقدت واعتدت أن تكون. وجدتني أبحث عن نفسي بين أشباه منفى وأشباه وطن. انحلّت عقدة الوطن، فما عاد لها من داع. تحلّلت الهوية إلى مكوّناتها الأصليّة. جسد، روح، فكر، وبعض القيم. وحين وجدتهم وجدت الهوية. وجدتني فيهم، في فنّهم، في شغفهم، في عشقهم، في جنونهم، في نقاشاتهم، في قضاياهم، وجدت هويةً كنت باحثاً عنها مذ وعيت.

ثم كان لا بد أن أمضي مجدّداً.

ما بين كانون الثاني من 2018 ومثيله في 2019، تنقّلت ما بين بيروت ومونتريال طامعاً أن أربح الاثنين معاً. أن أملك ذاتي الحاضرة وتلك المنبثقة في المستقبل، في آن. فرأيتني أخسرهما كليهما.

فكان القرار. لا بد من رحيلٍ جديد. رحيل لا مجال للإنكار فيه. فكان ما كان.

في كانون الثاني/ يناير 2019 انتقلت إلى مونتريال، أنا بيروتي الهوى، حلبي المنشأ والمربى، لاذقاني النسب من جهة الأب، وإدلبي من جهة الأم، المقيم في مونتريال إلى حين.

أصبح في البال هدف واحد: بعض استقرار. في القلب هدف واحد: أي استقرار.

مضى شهران ونصف الشهر. الوقت يمضي هنا سريعاً ببطء. ينتهي الأسبوع بلمحة بصر، والأيام ثقيلة بالكاد تمضي.

فكانت الكتابة فعل تأقلم، هذه المرة.

في مونتريال، لم أعتد بعد على التخطيط المسبق لأيام الأسبوع ونهايته المزعومة. أنا الذي لطالما تجنب الارتباط، أخشى أن أرتبط بموعد على رزنامتي قبل شهر أو أسبوع... لا أدري كيف يعلمون مسبقاً أنهم سيكونون بمزاج ينفع للقاء أو لمسرحية كوميديّة؟

فلا عفوية هنا في بلاد الـunderground والمواصلات العامّة. عفوية اللحظة تخنقها المسافات والأجندات المنسقة، تحوّلها إلى قواقع ذاتية يملؤها ويغذيها الـnetflix والحشيشة المشرّعة.

24 آذار/ مارس 2019

أكتب لكم عن مونتريال، وكان بالودّ لو استطعت أن أحدثكم عنها بصيغة الماضي، غدا بينكم.

لكنه اليوم. وأنا هنا. وأنتم هناك. ما زلت آمل أن أُرسل لكم قريباً بريداً يحمل دفء الهُنا. لكن الطقس مازال بارداً. كم أخشى أن ينتهي الشتاء ولا يأتي الدفء من بعده. فليبقى الشتاء ما طاب له البقاء.

في مونتريال، لم أعتد بعد على التخطيط المسبق لأيّام الأسبوع ونهايته المزعومة. أنا الذي لطالما تجنّب الارتباط، أخشى أن أرتبط بموعد على روزنامتي قبل شهر أو أسبوع أو حتى بضعة أيام. لا أدري كيف يعلمون مسبقاً أنهم سيكونون بمزاج ينفع للقاء، أو لعرض أوبرا، أو لمسرحيّة كوميديّة؟

فلا عفوية هنا في بلاد الـ Undergroundوالمواصلات العامّة. عفوية اللحظة تخنقها المسافات والأجندات المنسّقة، تحوّلها إلى قواقع ذاتية تملؤها وتغذيها الـ Netflix والحشيشة المشرّعة. أراها حصرية في عيون من تشاركوا ذواتهم. فأشتاق، أتأمّل، وأنتظر.

الـ Events على الفيسبوك تلاحقني وتذكّرني بما لا ينبغي عليّ تفويته. أنظر بطرف العين على تلك التي تحصل هناك، وأنا هنا. أزيد من إعجابي بما هو في متناول اليد رغم غرابته وغربته، على أمل أن يرأف بحالي الـ Algorithm ويكفّ عن اقتراح ما ليس بمتناول القلب.

في مونتريال، نادرة هي الأنشطة والأماكن التي تشبهني أو أشبهها. أقنع نفسي بأن لا مانع من بعض التجديد والاكتشاف. بات رفاقي يهزؤون من كمية اهتمامي بأنشطة لا يربطها رابط. أتفهّمهم. فأنا أيضاً ما زلت أبحث عن ذاك الرابط العجيب. أظنّ أني أعرفه. هو “الأنا الهنا" الذي لم أتعرّف عليه، أو لم أعترف به بعد.

أتوق في بحثي عمن يشابهني في بحث، في ضياع، أو في صراع. كم من الجميل أن نتعرّف على من يمدّنا ونمدّه بشعور من الأمان. تصبح المهمّة أصعب مع مرّ السنين وكثرة التنقّل. وكالعادة، كلمة الفصل يمتلكها الوقت الذي لا نمتلكه.

تأتي نهاية الأسبوع. رسالة، تلفون أو أكثر، يفصلهم سبع ساعات، وكثير من الحنين.

تنتهي نهاية الأسبوع. يبدأ أسبوع جديد. لا جديد. أعاود الكرّة. أراجع تلك الـ Events التي أعجبت فيها علّني أعجب بإحداها فعلياً. أختار. أقرّر. أذهب إليها وأنا أستمع في المترو إلى بعض الموسيقى وأغنّي كأني هناك، أغنّي وأنصت إلى صوتكم يغنّي "دخلت جنة عدن" و"سنتين وأنا حايل فيك.

ما بين الأربع والعشرينتين، عامان وخمسة أشهر، وتدوينات

شبههما كبير. لم يتغيّر شيء كثير في وصفي لهذه المدينة على ما يبدو. ولا أعتقد أن المدينة هنا لتتغيّر أصلاً.

نحن الضائعون، علينا أن نجد مدننا بين تلال الثلج.

اليوم، أكتب تدوينتي الثالثة هذه وكنت قد أمضيت أمساً مميزاً. سهرة Barbeque نُسِّقت في ساعات قليلة، لتؤنس الليل بعفوية. بين أغنية ل Queen ورقص على أنغام "شيك شاك شوك"، تلمّست الهنا في لحظة حاضرة، أنا الذي لطالما آنس الماضي وانتظر.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard